تداعي الكهرمان :
الرواية التاريخية عند جمال محمد إبراهيم
بقلم الرّاحل عمـر جعفـر السّـــوْري*
إنَّ التي زَعَمتْ فـؤادُك ملّهَـا خُلقـتْ هواكَ كَما خًلقْتَ هَوَىً لها
“فقـيه المدينة، عروة بن أذينة”
يحسب الكثيرون أنّ رواية “ويفرلي” التي نشرت في منتصف القرن التاسع عشر للكاتب الأسكتلندي السير والتر اسكوت، هي البداية الصحيحة للرواية التاريخية فنياً، من مختلف الجوانب التي تراضَى عليها النقاد معياراً للرواية المكتملة الأركان. ألّف والتر اسكوت بعدها ما يربو على الخمسين رواية، استدعتْ كلها تاريخ القرون الوسطى وحوادثه وأحــداثه، وما تدفّق خلال تلك الحقب والأزمنة من وقائع عددا، ممّا دفع بالنـقـاد ومؤرّخــي الأدب إلى اعتباره أباً للـرواية التاريخية، على الـرّغـم ممّن ســبقه إليها، كالروائي الأميركي استيفن كرين في ذلك الزّمان، ورغم الإرث الغنيّ الضارب في القدم منذ عهد الإغريق وملحمتي هوميروس، الأوديـسـة والإليـاذة، وإنْ نُظمتا شعراً، والملاحم الفارسية والروسية والآسيوية وغيرها ، ما لا يُعدّ ولا يُحصى .
دأب والتــر اسكوت على استحضار شخصياته من هاتيك القـرون، والاتيان بأخرى من نسج خياله المحض الخصب، لتلعب الأدوار الرئيسة في رواياته، وذلك من غير تنافرٍ أو تعارض. من هناك، ومن القرن التاسع عشر، انطلقتْ، كما يقول جورج لوكاش، الرواية التاريخية، لتصبح أكثر الروايات “إمتاعاً ورقيّاً وسموًّا” في الغــرب عامة، وأوروبا على وجه الخصوص؛ ثم انتقلتْ عبر الترجمة والتقليد والاقتباس، الى دنيا الرواية العربية في بداياتها الأولى، كما يذهب نُقاد الرواية العربية إلى القول، قبل أن يُنشئ روائيون عرب أعمالهم الابداعية. كان الصحافي سـليم البستاني، الذي ترجم إليـاذة هوميروس، سـبّاقاً إلى ذلك، لكنه لم يُحسن حبكة الرواية فـنـياً ، رغم انتاجـه الغزيز الذي أراد به تعليم التاريخ، فكان مُعلـماً وليـسَ قاصّاً أو روائـيـــاً. ثم تبعه كثيرون على رأسهم جورجي زيدان، الـذي ألف في كلِّ سـنةٍ رواية استوحتْ التاريخ الإســلامي في ثلاثة وعشرين عــمـلاً، حتى عُـرفَ عند البحّـاثة والنقـاد بأبي الـروايـة التاريخية العربية، مثلما كان اسكوت أباً للرواية التاريخية الأوروبــيـــة. وعلى النقيض من اسكوت، جاء بلـزاك ليجعل من المنظومة المجتمعية وعاداتها وتقاليدها ومكوّناتها، بطلاً للتاريخ وللرواية على حدِّ سـواء، وسار بينهما وفي وسطهما، ألكسندر دوما الأب في بعض رواياته.
تطورتْ الـرواية التاريخية الأوروبية في القـرن العـشرين، بأقـلام مُبـدعـيـن ومُبدعات كبار، منهم الروائية البلجيكية – الأميركـية “مارغريت يورنيسـار”، والكاتبة الإنقليزية “هيلدا بريسكوت”، والمؤلّف الألماني “غونتر غراس”، الذي نظر إلى التاريخ من زوايا متعدّدة، ونظر إلى نفسه فيه، من مرايا مختلفة الأحجام، متعدّدة الانعكاسات، لا سيّما في كتابيه “القرن الذي عشت فيه” و(الصندوق: حكايات الغرفة المظلمة :
: )Mein Jahrhunder t(
Die Box: Dunkelkammergeschichten).
ولما آلت شمــس القرن العشــرين إلى الغروب، بزغ نجم الرواية الإيطالية أمبرتو إيكـو” بروايته إسم الوردة
” Il Nome Della Rosa “:
) ، والصحافية والروائية الإيطالية “اوريانا فلاتشي ” رجل” (Un Uomo) ، وإن كان قد سبقهما الى ذلك الفضل في إيطاليا بالرواية التاريخية، التي نبعت من تجربة شخصية ثرية قوية في اطار من الحوادث التاريخية التي هيمنت على اروبا إبان الحرب العالمية الثانية وآلام المعاناة الانسانية، كل من “سيلوني” : ” خبز ونبيذ””
) Pane e Vino(
عام في المرتفعات””…..) Un Anno ll’Altipiano ) ، و”إميليو لوسّــــــو
” وزوجتـه ورفيقـته جويــس لوسّــــو: كاتبــة ” جبـهـات وحـــدود : .)Fronti e Frontier(
هنا نجد رواية التاريخ الذي ينبض بالحياة، متوهّجاً مُزهراً مزدهـراً متجسّـداً، لا السّرد التاريخي الجاف المًمل في أحيانٍ كثيرة، الذي تزدحم به كتب ومقـرّرات التــاريخ المدرسية والمرجعية. تاريخ تلمسه وتنظر إليه، كما تستعيده في ذاكرة حيّة ماثلة، تتوالى أحداثها في الحاضر وتستشفّ آثارها من رحم المستقبل. ذلك ما نجده في رواياتٍ ثلاث من روايات الأديب السفير جمال محمد إبراهيم : “نقطة التلاشي”، و”دفاتر كمبـــالا” و”حان أوان الرحيل”، لأنني لا أستطيع الزعم ان كانت رابعة رواياته: “دفاتر القبطي الأخيـر” تشي بذلك، إذ لم اطلع عليها بعد .
إلا أن جمــــالاً يبتعد قليلاً عن ذلـك المنحى الذي درج علـيه في رواياته تلك، عندما أصدر روايته الأخيرة: “نور: تداعـي الكهرمان”، لكنه لا يحـيد عن الــرواية التاريخية قـيد أنملة، بل ينتقل إلى بهوٍ آخر من رواية التاريخ، مُقدماً عمـــلاً أدبياً يستلهم تاريخاً قريباً، ويعرض سـرداً مُمتعاً لنفـسٍ وثّابةٍ طموحةٍ ، لا ترضى إلّا بما فوق النّجوم والمجــرّات، وحكاية تنفطـر لـها القلـوب في قالب من الأحـــداث والحوادث المتتاليات. يذكّرني ذلك برواية الكاتبة السودانية المبدعة ليلى أبو العــلا :
“زقاق الأغاني” ( أو “حارة المغنى”) : (Lyrics Alley)
التي تناولت فيها قصة عمّها الشاعر السوداني عوض حسن أبو العـــلا..
لا يستدعي جمال محمد إبراهيم في “تداعي الكهرمان” تفاصيل حياة معاوية نور منذ الطفولة الى الوفاة فحسب، في تواريخ متتابعة ومتداخلة، بل يشّرح بأسلوبه الممتع ولغته الندية وكلماته البرّاقة، علاقات مجتمع تلك الفترة، وتضاريس الروابط الأســـرية، ونهج الحكومة الاستعمارية، حتى مع مواطنيها الأصليين وغير الأصليين، ومع السودانيين عامّة وخاصّة، ومع شريكها الأصغر في حكم البلاد (مصر)، ثم يصحبنا مع معاوية نور إلى بيروت، حيث الطموح يتألق وشوق المعرفة يتفتح بعد أن كان بُرعماً يتحضّر في كلية غردون التذكارية. في بيروت أشاح بوجهه عن لحظة عشق كادت أن تتوهّج، فأطفأها، إلّا أنّ ضرامها ظلّ متقـداً في فؤاده وخاطـره حتى آخر يوم في حياته، تزيده اتقادا صــورة ضوئية باهتة لها. لعلّ “ريما رزق” بنت طرابلس الأرثوذكسية، عـادت تطلّ مـرّات ومرّات عبر الزّمن من تلك المدينة ذات الغالبية السنية التي تجاور محيطاً مارونياً ما عدا البحر الذي ترتمي بين أحضان مدّه وجزره وعواصفه ورياحه، فتسأل عن معنى آية قرآنية استعصت عليها وتبحث- وهي ترتشف القهوة بعد أن وضعت جريدة “السـفير” المفضلة لديها جانباً- بين صفحات الأسافير عن صدى قطعة موسيقية لبيتهوفـن توقف عن التردّد بين جنبات الذكريات منذ سنين عددا. ثم القاهرة وما لقي فيها من عنت وخيبات آمل ومسغبة وعلل فتـتْ في عضده، هو الذي خاض معارك مع فرسان مدجّجيـن فأوجعهم وأثخنهم جراحاً، وبقي واقفاً ينظر إليهم في زهو، وفي عجبٍ أحياناً. ولما أعياه الألمُ والعوزُ والهمُّ، عاد إلى بلادٍ، لم تفتح لهُ ذراعيها لتحتضن عبقرية صقلتها التجارب الحيّة، بعد أن راكمت المعرفة من ينابيع متفرّقة، ومشارب صافية، اختزنتها ذاكرة لا تصدأ. إكتملتْ مأساة الفتي الألمعيّ من حيث بدأ يصعـد نحو النّجوم ، فعاد إلى الثرى مَهيْض الجناح ليلوذ بقـبـوِهِ، حارقاً أقواسَه كلها. ثم ألهبتْ السياط ظهره بيد دجّالٍ مشعوذ تحت سـمع وبصر مَن أحبّه وتمنّى شفائه وخروجه من عزلته، فساقه إلى حتفه بوسيلة فيها من القسوة ما لا تحتمله غرائب الإبل، ولا تقوى عليه الوحوش الضارية. لكن مِن الحبِّ ما قتل..! صّور كاتبنا، بقريحة متدفقة أمسكتْ يراعاً سيالاً يقتفى أثر تاريخ متسلسل من غير ملل، معاوية نور وعصره، ولعله أراد أنْ يلفتَ نظر القارئ الى هذه العبقرية التي ذوَتْ قبل أوانها، وليخرجه من صوامع البحّاثة والمثقفين إلى الجمهور العريض.
يأتي جمال من منهلٍ ماؤه نميـر، ســقى جيـلاً بعد جيل فنوناً ونماذجَ مـن صنوف الأدب والثقافة الرفيعة. جاد من ذلك المنهل محمد أحمد محجوب وأحمد خيــر، ومحمد عثمان يسن، ويوسف مصطفى التني، وجمال محمد أحمد، وفخرالدين محمد، وسيد أحمد الحاردلو، وصالح عبده مشامون. ومشامون الذي عرفته، لم يكد يلقي رحله في دمشق، محطته الدبلوماسية الأولى، سكرتيراً ثالثاً، حتى جـذبت شـقته التي تحوّلت إلى مَرسمِ لكبار التشكيليين السوريين والفلسطينيين والعرب، لكنّهُ غادر وهو في أوجِ عطائه، مأسوفاً عليه، والقائمة تطول. .
الرواية التاريخية عنـد جمـال محمد إبراهـيم، هـيَ غير الروايـات التي استلهمت تاريخ القرون الفائتة، أو صنعتْ من العدم تاريخاً لم يكن. روايته التاريخية تلتقط لحظة الحدث وتأخذ توالي الأحداث المعاصرة بدربة وإبداع. قِلّة هُـم الروائيون العرب الذين شكّلوا تلك اللحظة وأشبعوا الأحداث إبداعاً، مِنّهم ليلى أبو العلا، وصنع الله إبراهيم في روايته “1970”، على سبيل المثال لا الحصر.
خاض جمال غِمار الرواية، ونظم القريض، وكتب المقالة، إلا أنه لـم يدن من القصة القصيرة، وما رسم فصول المسرحية حسب علمي. لعله ينكبّ على روايته الثالثة “حان أوان الرحيل”، أو أحداثها فيصنع منها مسرحية، تكون تجربته الأولى في هذا المضمار. كثيرٌ من الكتاب والمسرحيين صنعوا من رواياتهم أو روايات غيرهم، مسرحيات بزّت في روعتها النص الروائي، ومن تلك الاعمال رواية مكسيم غوركي “الأم” التي حولها المسرحي الألماني الطليعي، برتولت بريشت الى مسرحية، تألقت فيها رفيقة دربه، نجمة المسرح الرائعة هيلنا فايغـل، حيث كانت تضيء مسرح “برلينر إنزامبل” ، على كتف نهر الأشبريه بحضورها الأخّاذ، وبراعتها المنقطعة النظير.
هـذه انطبــاعات قارئ، لا أكثرولا أقلّ، تداعــتْ عـفـو الخاطـــرتحت ظــلال الكهرمان..
_________________
*توفي الرّاحل عمر السوري في سبتمبر 2023
بمرور أكثر من سبعة أشهر على رحيل صديقي العزيز اللأديب الصحفي “عليم” :عمر جعفر السوري، رأت أن أعيد آخر ما كتب لي وعن روايتي الأخيرة “تداعي الكهرمان” عن السيرة المتخيلة للأديب معاوية محمد نور