ضد التيار- هيثم كابو- نزحوا لا ليظلموا أحداً !!

* … عذراً أستاذنا الجليل، وأديبنا الأريب، وشاعرنا النحرير، محمد عثمان عبد الرحيم، فالأيام أثبتت (للأسف الشديد) أننا أقل قامة مما كنت وكنا نتوقع .. من حقك أن تتململ في قبرك حزينا كسيرا مقهورا، فأولئك الذين كنت تلف عمامة الإعزاز فوق هامتهم، وانت تنشد بملء الفخر والفيه:
(أيها الناس نحن من نفر.. عمروا الأرض حيثما قطنوا .. يذكر المجد كل ما ذُكروا.. وهو يعتز حين يقترن ..حكّموا العدل في الورى زمناً ..ترى هل يعود ذا الزمن؟ ..ردد الدهر حسن سيرتهم.. ما بها حطة ولا درن) .. هؤلاء الذين كنت تعتقد أن المجد بكل شرفه ونبله يرفع رأية الفخر متى ما اقترن أسمه بهم، لم يعودوا كذلك، فالأراضي التي هاجروا إليها في كل بقاع الدنيا للتعمير، باتت ترفض منحهم (أذن دخول) ولو طرقوا بابها سائحين (إلي حين) ..!!
* عزيزي محمد عثمان عبد الرحيم: بات مؤلما جدا الوقوف عند كل ما حواه نص أغنيتك الخالدة (انا سوداني)، التي كتبتها بحب دافق فأضحت (أيقونة) للغناء الوطنى لا سيما وأن من وضع عليها دباجة حنجرته المعتقة الندية هو (أبو الأغنية الوطنية) حسن خليفة العطبراوي .
* إن كانت عبارة (أيقظ الدهر بينهم فتنا، ولكم أفنت الورى الفتن) مؤلمة عطفا على الواقع المرير، فإن الأكثر إيلاما قولك :
( ..”نزحوا” لا ليظلموا أحداً ..ولا لاضطهاد من امنوا)، فما لا تعلمه بعد عشر سنوات من رحيلك المر أن أبناء وطنك باتوا هم المضطهدين للأسف بسبب أبناء جلدتهم، وغادروا ديارهم مكرهين لا حول لهم ولا قوة، كما أن “النزوح” بات الوصف الملازم لهم شاءوا أم أبوا، فكل تعريفاته وصفاته تنطبق عليهم تماما، وإن لم تمنحهم المنظمات الإنسانية الدولية بعضا مما يسد رمقهم، فهنئيا لك برحيلك الرحيم الذي كفاك شرور الموت قهرا هذه الأيام، فمن يعرف السودان حقا لن يحتمل قلبه المشبع بحب التراب ما تشهده أراضيه من نهب وقتل وتشريد ودمار وضياع وإذلال ..!!
* لم يمضِ يا أستاذنا المبجل على رحيلك زمنا طويلا، أعلم ذلك جيّدا، فلا زلت أذكر كفكفة الدموع حزنا، ومدارتها بالصنقيعة عند اتجاهي من الخرطوم صوب مدينتنا الحسناء رفاعة التي كانت ترقد آنذاك آمنة على النيل كالهمزة على السطر.. نعم، كان ذلك قبل عشر سنوات، وتحديدا في أكتوبر حينما أغمضت إغماضتك الأخيرة بمسقط رأسك، وانت تودع البلاد التي أحببتها، متغزلا بحسنها، وفخورا بكل جزء فيها، كيف لا، وانت الذي كتبت بحبر الإنتماء:
(كل أجزائه لنا وطن.. إذ نباهي به ونفتتن. .نتغنى بحسنه أبداً .. دونه لا يروقنا حسن ..حيث كنا حدت بنا ذكر.. ملؤها الشوق كلنا شجن ..نتملى جماله لنرى .. هل لترفيه عيشه ثمن ..خير هذي الدماء نبذلها.. كالفدائي حين يُمتحن ..بسخاء بجرأة بقوة .. لا يني جهدها ولا تهن ..تستهين الخطوب عن جلدٍ.. تلك تنهال وهي تتزن).
* عزيزي الراحل المقيم محمد عثمان عبد الرحيم: تباً لأغنية كنا نحسبها الأقرب لوجداننا، ونقول أنك كتبت مئات القصائد الوطنية التي تضخ الحماسة في الأوردة والشرايين، وتنفخ روح الإنتماء الصادق في الأجساد، إلا أن رائعتك (انا سوداني) لا يعيبها شئ سوى أن ما تحتشد به من روعة وجمال غطى على معظم لوحاتك الأدبية التي رسمتها بمداد الصدق في حب الوطن بما فيها ديوانك البديع (وقفات على مدارج الإستقلال) .
* ما لا تعلمه يا شاعرنا الكبير أن (لايف) حميم قبل بضعة أيام على صفحة موقع (المنبر) على (الفيس بوك) في ساعة متأخرة من الليل رفقة الصديقة د. عفراء فتح الرحمن لتوضيح بعض النقاط ذات الصلة بإنطلاقة الموقع فجّر الأحزان كنهر من لهب .. الحديث كان يمضي سلسا لا يخلو من بعض القفشات أحيانا في محاولة لضرب الهم بالفرح، ولكن أنامل (المونتير) الشاطر محمد طارق أرادت وضعنا في مواجهة الذكريات والوقائع والوثائق عندما انطلق صوت أسرار بابكر صادحا بالأغنية الأهزوجة .. كل حرف فيها كان يفتح جرحا لم يندمل بعد، وكل نغم منساب بين القوافي كان يرسم لوحة الحزن الكبير، وأكثر ما يجعل الكلمات تصل لمعانيها تفصيلا دون ترجمان هو صوت أسرار ..وما أدراك ما أسرار ..حتما تذكر حينما أتيناك في رفاعة مبادرين بإزالة سوء فهم عالق خلقه ترديدها للأغنية دون سابق إستئذان.. رتبنا لتلك الرحلة مع الزميل الراحل محجوب عبد الرحمن .. ذاك الرجل النسمة الذي غادر عالما لا يشبهه، وكان برفقتنا وقتها الزميل العزيز طاهر محمد علي الذي أمتلك من أسمه نصيب الأسد فهاجر بكل طهره ونقائه خارج البلاد منذ سنوات .. كان زمن الرحلة يمضي سريعا والعربة تنهب الطريق شرقا مع الدردشة وأسرار بطبعها (بت بلد .. عفوية .. وكل مافي قلبها على لسانها) ..!
* طالما أن الحديث قادنا لزيارتك بمنزلك رفقة أسرار وزملاء أعزاء من بينهم الحبيب محمد عبد الباقي الذي وجدناه معك برفاعة، دعني أخبرك بأن أسرار لم تواصل نشاطها كما أنها لم تعلن الإعتزال نهائياً، وفضلت العيش (ربة منزل) داخل جدران أسرة تظللها السعادة، وقبل أن تترك قرار الإستئناف او عدم العودة (مجمداً)، فإنها تركت فراغاً لم تسده إطلالتها الخاطفة بقناة (البلد) قبل شهور مضت، ولا كثير من الأصوات التي جاءت بعدها.. غابت أسرار عن المشهد الغنائي بعد أن حملت معها أسرار الجمال وروعة الاداء، و(في الليلة الظلماء يفتقد بدر الغناء)..!!
* ..و الخواطر تترى تباعا، وهاهو الحديث يتشعب هنا وهناك، وتظل المأساة شاخصة، لذا استميحك أستاذنا محمد عثمان عبد الرحيم في الانصراف، فثمة أخبار جديدة تترى عن زيادة في عدد القتلى بالسودان، والهجمات على أشدها، والواقع تعجز ريشة الحروف عن وصفه، وتبقى أنت رمزا وطنيا وأدبيا رفيعا لم يأخذ حقه الكامل، فيكفي نضالك ضد الإستعمار منذ أن كنت طالباً وأحد أعضاء لجنة (الزعفران) قبل تخرجك من كلية غردون التذكارية عام 1931، كما أن الوطن ظل قضيتك طيلة المائة عام التي عشتها حتى رحيلك بذاكرة متقدة، وإنتاج شعري جديد، وتدفق أبداعي لم ينضب يوماً، وليس هناك ثمة دليل على نبوغك الأدبي المبكر أكثر من أن ديوانك الأول (في رياض الأمل) كتب له المقدمة الشاعر إبراهيم ناجي في إعتراف (أقليمي) نبيل بجوة منتج سوداني ليس له مثيل ..!
نفس أخير
* نحن بالروح للسودان فداً ..
فلتدم انت أيها الوطن.

موقع المنبر
Logo