فرص المراجعة التاريخية على ضوء ثورة ديسمبر والسلام في السودان

ياسر عرمان
قال البروفيسر السنغالى الشيخ أنتا ديوب، وهو واحد من أهم المؤرخين والمفكرين الثوريين الأفارقة، وقد نال درجة الدكتوراة من جامعة السوربون فى رسالة حول اصول الحضارة الإفريقية السوداء القديمة لوادى النيل وقد اطلق عليها لأهميتها الفائقة “إنجيل التاريخ الافريقى” قال “إننا عندما نتحدث عن أجدادننا السود الذين يعيشون غالباً فى افريقيا السوداء ومساهماتهم فى علوم الرياضيات والفلك وعلوم التقويم عموماً والفنون والأديان والزراعة والنظام الاجتماعي والطب والقراءة وفنون العمارة وهم مهندسو العمارة الأوائل الذين استطاعوا بناء إهرامات يبلغ وزنها أكثر من 6 ملايين طن وما كان لذلك أن يتم لعمال غير مهرة، إننا حينما نقول ذلك لا نتنكر لمساهمات الآخرين كما عليهم أن لا يتنكروا لمساهمات الأفارقة السود وإننا فى ذلك نسعى الى المصالحة الانسانية” بروفيسر أنتا ديوب فى كتابه “أصل الحضارة الافريقية: خرافة أم حقيقة”.
  • العرب الموجودون فى إفريقيا يفوق عددهم العرب المتواجدون فى آسيا وهى حقيقة جديرة بالتأمل ولا تؤشر الى مؤشر الجغرافيا فحسب بقدر ما تشير على نحو أكثر أهمية الى التفاعل الثقافى والاجتماعى والانسانى والتاريخى بين  العالمين الافريقى والعربى والعلاقة بينهما معضلة من معضلات سودان اليوم فى تناول قضايا البناء الوطنى.
قال ألبيير كامو المثقف والمفكر والمتمرد عن المناهج التقليدية “إن مناهج التفكير التى تدعى قيادة عالمنا بإسم الثورة قد أصبحت فى الحقيقة عقائد جامدة وليست تمرداً أو ثورة”.
إن الثورة الحقيقية هى وحدها من تستطيع هدم المجتمع القديم وبناء مجتمع جديد وفق منظور تاريخى قائم على المراجعة والنظرة النقدية لكامل التاريخ وما تمخض عنه من تناقضات فى بناء المشروع الوطنى، وتظل قضية المواطنة بلا تمييز هى إحدى القضايا الرئيسية التى دون حلها لن نستطيع بناء دولة حديثة وسلام دائم وديمقراطية وتنمية مستدامة فى السودان.
وثورة ديسمبر 2018 المجيدة تشكل فرصة فريدة للمراجعة التاريخية لا سيما وأن خطابها السياسى إتجه نحو الإحتفاء بالتنوع والاعتراف بالآخر وربط قضية الديمقراطية والسلام والعدالة كحزمة واحدة ويمكن القول بثقة ودون تردد إن خطاب الثورة فى جوهره هو خطاب “السودان الجديد” الذى يجعل من المراجعة التاريخية أمراً ضرورياً للوصول للمشروع الوطنى الجديد.
إن المراجعة التاريخية التى نعنيها تقوم على الحقائق والبعد المعرفى والمنظور المتكامل لتاريخنا الوطنى والبحث عن مشروع وطنى ديمقراطى قائم على المواطنة بلا تمييز والاعتراف بالمساهمات التاريخية لجميع أقوام السودان وبالتنوع التاريخى والمعاصر وبالآخرين وحقهم فى أن يكونوا آخرين فى إطار مشروع ديمقراطى منحاز للفقراء والمهمشين وفى مقدمتهم النساء.
حروب السودان الحالية التى بدأت منذ أغسطس 1955 بتوريت فى جنوب السودان واستمرت حتى يومنا هذا أكتوبر 2020 فى ظل أنظمة مننتخبة وشمولية واتفاقيات سلام ثم حرب وثورات تطيح بالشموليات مع استمرار الحرب ولأول مرة فى ثورة ديسمبر تتبدى للعيان إمكانية أن تؤسس الفترة الانتقالية للديمقراطية والسلام معاً وتهديهمها كحزمة واحدة وقد استخلصت الحركة الجماهيرية أهمية الربط بين الديمقراطية والسلام والعدالة فى شعارها الفريد “حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب” ويرجع الشعار بجذوره إلى مساهمات حركة الطلبة الجنوبيين فى إطار السودان الموحد وبتأثير قوى من مفاهيم ورؤية السودان الجديد.
فى عام 1988 م. وفى معسكر (نرويجان) بالقرب من مدينة كبويتا بشرق الاستوائية، استدعانى الشهيد الدكتور جون قرنق دى مابيور فى إحدى الامسيات الخريفية وسماء الاستوائية لا يتوقف عن مخاطبة الأرض بالغيث وكنت قد التحقت برئاسته المتحركة قبل مدة وجيزة وأعطانى وثيقة كان قد كتبها عشية اتفاق أديس أبابا فى مارس 1972 معترضاً على ذلك الاتفاق وقد أورد حيثيات دقيقة تدعم إعتراضه مما أغضب جوزيف لاقو قائد الانيانيا الاولى وجعله يطلب من جعفر نميرى عدم إستيعاب جون قرنق فى القوات المسلحة، وأنه إذا إستوعبه سيكون ذلك مجازفة منه، وذكر لى دكتور قرنق أنه قد فقد هذه الوثيقة منذ سنوات ولكن صديقه البروفيسر دومنيك أكيج محمد أستاذ الهندسة فى جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة الامريكية هو من إحتفظ بها وأرسلها له مجدداً، ثم عرج على منظوره التاريخى للقضية السودانية ولموضوعة “السودانوية” واستشهد بالبروفيسر والمفكر السنغالى الشيخ أنتا ديوب وكانت تلك هى المرة الاولى التى تعرفت فيها على مساهمات الشيخ أنتا ديوب ذات الصلة الوثيقة بالتاريخ السودانى. ولاحقاً فى القاهرة التقيت الدكتور الراحل محى الدين صابر الذى عاصر البروفيسر أنتا ديوب فى جامعة السوربون وقد أهدانى إحدى مجلدات الشيخ أنتا ديوب وعلى غير عادة الصورة المرسومة لمحى الدين صابر فى مخيلة الكثيرين حول إهتماماته فان الدكتوراة التى نالها كان موضوعها عن قبيلة الزاندى بجنوب السودان. إن المراجعة التاريخية تستدعى من الاكاديميين/ات السودانيين/ات الحفر والنحت فى التاريخ السودانى والعلوم الانسانية للمجتمعات السودانية مما يجعل منظورنا السياسي مستنداً على المعرفة بتاريخنا ومجتمعنا.
المراجعة التاريخية تحتاج الى القراءة والإلمام الدقيق بالتاريخ السودانى نفسه قبل أن نشرع فى مراجعته، يجب أن نطلع على تاريخ البلاد التى نريد أن نقوم بمراجعة تاريخيها فاذا لم نحيط بدراية وعمق بتاريخها لن نستطيع أن نقوم بمراجعته.
إن لم نكن نعلم من أين جئنا، لا نستطيع أن نحدد بدقة الى أين سنتجه ونبحر فى لجة قضايا الماضى وتعقيدات الحاضر وستأخذنا رياح وعواصف وتيارات العالم المضطربة لا سيما وأن العولمة قد فرضت شروطاً جديدة للتطور تزهق أرواح الثقافات والتفرد الذى تحظى به كثيرٍ من المجتمعات وتقدم لها بدلاً من تميزها التاريخى الوجبات السريعة والروشتات المعدة والمصنعة بعيداً عن حياض ثقافاتها وتربتها الوطنية الأمينة.
هنا نحن أمام تفاعل وطنى وتفاعل خارجى، نأخذ ونعطى والتاريخ هو محور هام فى عملية التشكل والبناء الوطنى وتيارات ما بعد الدولة الوطنية وما بعد الكولونيالية والاستعمار الحديث. إن السفن التى لا تربط فى المراسى تأخذها تيارات المياه الجارفة بعيداً عن سواحل الرسو وهكذا المجتمعات التى لا ترتبط بمراسى تاريخها. ومن هنا تكمن أهمية التاريخ وضرورة مراجعته كواحد من أعمدة البناء الوطنى والشخصية السودانية التى يرجع تاريخها الى ما يزيد عن 7000 عام من التشكل والصيرورة التاريخية المستمرة. والمنظور التاريخى التقدمي بغرض توحيد الضمير الوطنى وبناء مشروع وطنى قائم على المواطنة بلا تمييز يجمع ولا يفرق ويصون ولا يبدد هو واحد من أعمدة فكر “السودان الجديد” وأحد المساهمات الرئيسية للدكتور جون قرنق دى مابيور أتيم.
السؤال المحورى هنا، ما هى أهم الخصائص والملامح التاريخية للسودان؟
السودان بلد فيه تنوع تاريخى وتنوع معاصر، هذه هى الخصائص الرئيسية التى يجب أن يبنى عليهما المشروع الوطنى، والمشروع الوطنى منذ إستقلال السودان في 1956 لم يأخذ فى إعتباره خصائص السودان المهمة وهى التنوع التاريخي والتنوع المعاصر، والتنوع التاريخي فى تاريخ السودان يرجع الى أكثر من سبعة ألف عام وهو جزء من تاريخ حضارات وادى النيل القديمة وهى حضارات إفريقية سوداء وهى الحضارات التى قامت على ضفاف وادى النيل والسودان فى قلب هذه الحضارات، وفى حضارات وادى النيل القديمة لعب السودان دوراً محورياً وساهم فى تطور العلوم والهندسة وغيرها وهنالك دلائل مثبتة من كثير من المؤرخين والباحثين والدارسين بأن الاهرامات قد بدأت في شمال السودان ثم إنتقلت الى مصر، والاهرامات المصغرة هى التى كانت بدايات بناء الاهرامات والتى إنتقلت لاحقاً شمالاً إلى مصر، والسودان كان مشاركاً فعلياً فى نهضة حضارات وادى النيل وحكمت الاسر السودانية مصر القديمة، وقد بدأت ديانات التوحيد فى وادى النيل، واخناتون هو الذى بدأ توحيد الديانات، وفى السودان أقامت المسيحية دويلات وممالك حكمت السودان لأكثر من 1000 عام (المغرة وعلوة وسوبا) ولا زالت كثير من الطقوس والعادات والموروثات ترجع للعهد المسيحى، والعذراء نفسها رسمت كإمرأة سوداء فى كنيسة (فرس) التى غمرتها مياه السد العالى وقد قام الملك زكريا ابن جرجة، أحد الملوك المسيحيين السودانيين العظماء، بزيارة بغداد فى العهد العباسى، ولا زال الناس حينما يولد طفل جديد فى بعض مناطق السودان يرسم صليب من الكحل على جبهته وفى الأعراس يذهب بالعرسان الى النيل وتقام له طقوس أقرب أو شبيهة بالمعمودية على ضفافه، والحاكمية دوماً للنيل الخالد، والاسلام إنتشر على مدى تسعة قرون وأول دولة اسلامية كانت فى 1504 السلطنة الزرقاء وسميت بالسلطنة الزرقاء لأن الناس الزرق كانوا هم الطبقة العليا وهذه السلطنة قامت نتيجة للتحالف التاريخي بين عمارة دنقس وعبد الله جماع (الفونج والعبدلاب) وإستمرت وحكمت السودان لمدة 317 عام وكذلك سلطنات الفور والمسبعات والبلويين في شرق السودان وغيرها، إن الاسلام السودانى ذو خصائص سودانية شربت من الحضارات والثقافات والطقوس السودانية وأثرها القوى على الطرق الصوفية براياتها المطرزة بالنذور الافريقية وقد إنتشر الاسلام فى شمال السودان على مدى تسعة قرون بالموعظة الحسنة لا بسيوف الجهاد وإراقة كل الدماء، تم ذلك من اتفاقية البقط فى عام 641 م الى قيام السلطنة الاسلامية الاولى فى سنار فى عام 1504 م.
شهد السودان القديم تطور الكثير من العلوم والفنون وتجذر المعرفة وكان ابادماك هو إله المعرفة عند النوبيين القدماء وكانت مروي هى بيرمنجهام إفريقيا التى علمت العالم صهر وتطويع الحديد وهذا التنوع التاريخي لم يعطى أى حيز فى بناء المشروع الوطنى والإعتراف بأثره فى تكوين الشخصية الوطنية ولا فى أجهزة الاعلام ودور الوعى والمعرفة والمناهج بعد خروج الاستعمار، والمشروع الوطنى حصره الأباء المؤسسون للدولة السودانية الحديثة فى معياري “العروبة والاسلام” وتجاهلوا المعايير الأخري وهذا واحد من العيوب الرئيسية فى المشروع الوطنى لما بعد الاستقلال والتي يجب أن تصحح عبر ثورة ديسمبر واتفاق جوبا لسلام السودان من خلال منظور وطنى جديد، أيضاً السودانيين أو السودان فى شكله الحديث قبل انفصال جنوب السودان كان به أكثر من 570 قبيلة وأكثر من 130 لغة مثل لغات البداويت والفور والدينكا والنوير الذين يطلقون على لغتهم “توك ناس” أى حديث الناس وهى لغات أقدم من اللغة الانجليزية وبعض من اللغات الحية فى عالم اليوم، والتنوع المعاصر لم يعطى الأهمية التى تليق به.
نقطة أخرى مهمة فى هذا السياق سبق أن ذكرتها منذ سنوات فى مقابلة صحفية فى بداية 2011 م وفى مقالات أخرى إن الانتقاص من تاريخ السودان هو الذى انتقص من جغرافيته ووحدته وهو الذى أدى الى ذهاب الجنوب، وبعد ذهاب الجنوب الذى تمخضت عنه دولة جنوب السودان قلت إن ذلك لن يؤدى الى حل وسيكون هناك “جنوباً جديداً”، وأن الانتقاص من تاريخ السودان هو الذى انتقص من جغرافيته ووحدته وهو الذى سينتقص من جغرافيته مرة أخرى حال إستمر ذات نهج المشروع الوطنى القديم، فالجغرافيا والتاريخ يسيران فى تناغم واتحاد وتنافر أيضاً إذا كانت الرؤية رؤية غير منسجمة مع التاريخ والجغرافيا والتنوع، ولذلك فالمراجعة التاريخية تحتاج الى مرجعيات تاريخية وأن نرجع ببصرنا الى بدايات التاريخ المعروف لهذه البقعة الجغرافية المسماة السودان الآن، أيضاً يجب أن نبحث فى المسكوت عنه فى الكثير من ملامح تاريخنا السياسى الحديث وأن نتناول قضايانا بشكل جاد.
“الرق وجذور أزمة البناء الوطني
من مخلفات الماضي التي لعبت، من بين أشياء وعوامل أخرى، دوراً رئيسياً وخطيراً في تشكيل جذور أزمة البناء الوطني حملات الاسترقاق المكثفة في فترة الحكم التركي المصري والمهدية ضد سكان مناطق بعينها ومساهمة بعض الوطنيين السودانيين كوكلاء محليين في هذه الحملات. ومع الاقرار بأن الرق ظاهرة عالمية فى التاريخ الانسانى وموجودة منذ عهد الفراعنة والممالك النوبية القديمة وكذلك في سلطنتي الفونج والفور وفي الجنوب وكل المجتمعات التقليدية، إلا انه كان يمارس في نطاق تقليدي محدود، التطور النوعي الذي حدث في فترة الاستعمار التركي المصري هو أن ظاهرة الرق تحولت إلى ممارسة منهجية واسعة النطاق كصناعة وتجارة تدر الدخل ومرتبطة بالنهضة الصناعية فى الغرب وموانيه الكبرى وشخصياته التى راكمت ثروات من خلال تجارة الرق، وما “هوبكنز” إلا ما ظهر من جبل الجليد، وتحولت كذلك الى ممارسة مؤسسية بمعنى أنها مرتبطة بسياسة الدولة ومؤسساتها الرسمية كأحد الأهداف الرئيسية لغزو السودان (جلب العبيد والذهب). أدى هذا الانتشار الواسع في ممارسة الاسترقاق ومشاركة سودانيين فيه إلى بذر أخطر بذور الانقسام والغبن في المجتمع السوداني، وما تزال تركة الرق تلعب دوراً في إعاقة عملية البناء الوطني وفي تغذية النزعات العنصرية ومظاهر الاستعلاء الإثني، وتعود إليها جذور بعض التفاوتات الطبقية الموجودة اليوم في المجتمع السودانى. ولا يمكن مواجهة ظاهرة العنصرية الموجودة في السودان وتحقيق التصالح الوطني دون العودة إلى التاريخ وفتح الملفات المسكوت عنها. فلا يمكن تحقيق مصالحة وطنية حقيقة إلا عبر القراءة الموضوعية لتاريخ السودان وإعادة كتابته، خاصة فترة تجارة الرق والجراحات العميقة التى خلفتها فى قضايا البناء الوطني ووحدة السودانيين ونظرتنا لبعضنا البعض. كما ساهم هذا الإرث في تقسيم قوى التغيير وتعطيل عملية توحيدها فى معركتنا لبناء مجتمع جديد معافى.
إن دراسة تلك الفترة والكشف عما جرى فيها والإدانة الواضحة والانتقاد الشفاف لتلك الممارسات التي حفلت بها ومخلفاتها اللاحقة ومكافحة العنصرية الحالية التى تمخضت عنها هي واجبات يجب القيام بها من أجل مستقبل التعايش بين السودانيين. ولن يتم كل ذلك إلا من خلال تبني مشروع وطني لبناء سودان جديد يعترف بالتنوع الإثني والثقافي والديني وحقوق المواطنة المتساوية، وتحويلها من كارثة إلى منفعة وذلك بتبنى الدولة لسياسات واضحة لمكافحة مختلف أشكال العنصرية والتمييز من خلال مناهج التربية والتعليم والاعلام وبناء ثقافة مجتمعية متكاملة تحترم الكرامة الإنسانية وتعلي من قيم المساواة بين البشر دون تمييز، واصدار التشريعات الصارمة لمكافحتها.
علينا أن نواجه ماضينا بجرأة لنصنع ما هو أفضل بمستقبلنا، فتأريخ السودان يحتاج إلى إعادة قراءة وكتابة مبنيّة على الحقائق تعترف بمساهمات كافة الشعوب السودانية وكافة الأخطاء والجرائم التاريخية. فالتاريخ وتجارب بناء الأمم تعلمنا بأن الهويات المتصارعة التي انتجت العنف والانقسام يمكن أن تصبح هويات متحدة ومتآلفة اذا ما تمت إعادة تعريف وإعادة بناء الدولة بطريقة تجعلها تعبر عن كل مكونات المجتمع.
ومن ضمن هذه المراجعة الدقيقة لتاريخنا القديم والمعاصر لابد من وقفة خاصة عند ثورة 1924 لا سيما ونحن على أعتاب الذكرى المئوية لهذه الثورة المجيدة التى تجاوزت عالياً جراحات تجارة الرق، خاصة الآن جاءت فرصة جديدة ليس للمراجعة التاريخية فحسب بل لبناء مشروع وطنى جديد بعد ثورة ديسمبر المجيدة، ودون بناء مشروع وطنى جديد ستنتهى الثورة مثل ما انتهت ثورة اكتوبر 1964 وثورة ابريل 1985، هذه البلاد تحتاج الى مشروع وطنى جديد والمشروع الوطنى الجديد يقوم على المراجعة التاريخية.
إن ثورة 1924 هى أهم حدث فى تاريخ السودان الحديث أقام فعله فى محاولة جريئة للقطيعة مع الماضى والمراجعة التاريخية وإعلاء رايات “السودانوية” وهى العروة الوثقى لبناء مستقبل مشترك للشعوب السودانية وتوحيد السودان على أساس من الأخوة الشريفة.
ما هو الهدف من المراجعة التاريخية؟ إن الهدف الرئيس هو الوصول الى مشروع وطنى جديد جامع وبموجبه سيتم بناء سودان جديد مختلف كلياً، وبإحداث قطيعة كلية مع ما مضى من نظرتنا السابقة وأن نرتكز على التنوع والتعدد التاريخى والمعاصر لبناء دولة جديدة قائمة على العدالة وقائمة على الانحياز الى للفقراء والمهمشين.
حدثان مهمان يستدعيان المراجعة التاريخية وهما إنفصال الجنوب والإبادة الجماعية، هذان الحدثان يتطلبا مراجعة المشروع القديم والذى أثبت فشله والوصول الى مشروع وطنى جديد يقوم على المواطنة بلا تمييز، فى المراجعة التاريخية أكبر قضية اسقطتت واهملت من كل الحكومات الوطنية هى قضية المواطنة بلا تمييز، ويجب بناء دولة ديمقراطية قائمة على العدالة والمواطنة كأهم قضية منذ استقلال السودان لم تراعى من كل الحكومات التى أتت وذهبت. وإنهاء حروب الريف والعدالة الاجتماعية والسياسية والثقافية يجب أن تكون فى قلب المشروع الوطنى وأن يتناول هذا المشروع البعد الثقافى وهو أمر هام للغاية الوصول الى مشروع جديد جامع لأن الأزمة الوطنية أزمة مركبة وفى عمقها قضية المواطنة وقضية الاعتراف بتعدد الثقافات. والمشروع الوطنى الحالى بانت ملامحه فى ثورة ديسمبر وفى هتافات الشهداء وهذا المشروع يجب أن يعيد الوجه المنتج للريف والتنمية الريفية ويقضي على التنمية غير المتوازنة ويربط ربط عضوى بين الريف والمدينة وينقل المدينة الى الريف لا الريف الى المدينة وحروب الريف أتت نتيجة للفقر والفقر أدى الى تهميش الآلاف والتهميش وإفقار المواطنيين أدى الى إتجاههم للحروب للدفاع عن أرضهم وثقافاتهم فى وسط النهب والافقار الذى مارسته الطفيلية المتسربلة بالدين، والنظام الذى سقط هو نظام فاشى بامتياز حاول أن يمتص من الناس مواردهم وثرواتهم وثقافاتهم وهويتهم حتى يخضعهم الى أبارتايد سياسية ودينية.
فى الأخير يجب على المراجعة التاريخية أن تشمل الإعتذار على الحروب وإعتذار الدولة السودانية التى حاولت إخضاع الكثير من السودانيين/ات ضد رغبتهم/اتهن وحاولت أن لا تعترف بتعدد الثقافات وقامت الحروب فى أشياء لا يمكن أن تصدق فى الألفية الثالثة مثل رغبة الناس فى الحديث بلغاتهم وأن تكون لغاتهم وذواتهم معترف بها وأن تكون المواطنة المتساوية هى أساس الحقوق والواجبات الدستورية، فالمراجعة التاريخية تستدعى أن نراجع كل هذا التاريخ الطويل الذى أدى الى الحروب وتدمير الموارد والنسيج الاجتماعى.
إن حل قضية الدين والدولة على نحو صحيح وفى إطار عملية شاملة نحو بناء دولة حديثة تبلغ ذروتها باعتماد المؤتمر الدستورى لمشروع وطنى جديد أمر هام لا بد منه فى إطار المراجعة التاريخية كما إن قضية الترتيبات الأمنية شديدة الصلة والإرتباط ببناء الدولة المدنية وبإنعكاس التنوع داخل مؤسساتها وفى مقدمتها القوات المسلحة السودانية والنظامية الاخري ودون حلها يظل المشروع الوطنى مختلاً وغير منتج.
المراجعة التاريخية ستساعد على نحو مقدر فى التوجه نحو بناء “إتحاد سودانى” بين دولتى السودان مع إحتفاظ كلاهما بسيادتها، يقوم على روابط النسيج الفريد للعلاقة بين الدولتين والمصالح الاستراتيجية بينهما.
أخيراً أن ثورة ديسمبر المجيدة وأيقونتها فى ساحة الاعتصام وأعالى جمهورية النفق وشعارها البديع “الشعب يريد بناء سودان جديد” ومشاركة ملايين الشباب والنساء الذين يحتفون بالتنوع ويبحثون عن مشروع وطنى جديد قائم على الحرية والسلام والعدالة والمواطنة بلا تمييز هو الذى يجعل من المراجعة التاريخية واتفاق السلام يستند على أساس مادى ورغبة جماهيرية انطلقت من حناجر الشهداء قبل الأحياء ولذا فإن المراجعة التاريخية ممكنة وواجبة وضرورية وهى سبيلنا الوحيد نحو المستقبل.
وأهدى هذه المساهمة لشهداء ثورة ديسمبر 2018 المجيدة وشهداء إنتفاضة سبتمبر 2013 وشهداء الثورة السودانية طوال ثلاثين عاماً والذين جعلوا من المراجعة التاريخية أمراً ممكناً.
ورقة قدمها الأستاذ ياسر عرمان فى الندوة الصحفية بمركز طيبة للاعلام ضمن فعاليات الاسبوع السياسى حول اتفاق جوبا لسلام السودان وخلال الورشة الاولى للتبشير بالسلام التى أقامتها المفوضية القومية للسلام بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الانمائى بالخرطوم
24 – 29 أكتوبر 2020 م.
موقع المنبر
Logo