د. عبدالله علي إبراهيم يكتب : الاتفاق الإطاري: لو أوقفوا الحفر (2-2)

عبد الله علي إبراهيم

كان خطاب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، الذي أذاعه في يوم 9 أكتوبر الجاري مما ملأ السودان وشغل الناس في الأسبوع الماضي.
كان وقع هجوم حميدتي على الاتفاق الإطاري (ديسمبر 2022)، الذي سعت به قوي الحرية والتغيير والمجتمع الدولي لحل الأزمة السياسية بعد انقلاب أكتوبر 2021، ثقيلاً على تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية “تقدم” التي كانت هي الطرف الثالث في التوقيع على الإطاري بجانب القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. وظلت تزكيه كالبلسم الشافي المنتظر لأزمة السودان بعد انقلاب العسكريين على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2012 لولا أن الكيزان كانوا قد بيتوا النية على تخريبه حرباً ليعودوا للحكم بعد إجلائهم منه بعد ثورة ديسمبر 2018. ولا ريب أن تحرجت “تقدم” من هذا التوزير بالحرب يأتيها من مأمن. وأمسك أحمد طه، الإعلامي بشبكة الجزيرة، بزمام هذه الحرج حين قال لبكري الجاك، الناطق الرسمي ل”تقدم” على برنامجه باجتماع طرفي الحرب على تحميل الإطاري وزر بالحرب. فكان ذلك رأي الإسلاميين فيه وها هو حميدتي يتفق معهم.
صرف به بعض أهل “تقدم” نكير حميدتي على الإطاري واتهامه له بإثارة الحرب بصور مختلفة.
فاتفق كل من بكري الجاك ورشا عوض، الناطق الرسمي السابق ب”تقدم”، بأن تذنيب “تقدم” بإشعال الحرب على ضوء هجوم حميدتي الأخير عليه، قول مرسل. فاستنكرت رشا أن كيف لجهة مثل “تقدم” أن تشعل حرباً وهي بلا جيش في حين أن للكيزان جيش. وتساءلت عن أي سلطان لقوى مدنية مثلها على الدعم السريع حتى تأمرها بالحرب فتطيع وتشعلها. وسار بكري الجاك على نفس منوال رشا في تبرئة الاتفاق الإطاري و”تقدم” من جريرة شن الحرب. فقال إن حقيقة الأمر أن الإطاري ليس جهة تعطي الأوامر بالحرب. ولكن هناك من أعطى الأوامر بالحرب. وهناك من يجيش الجيوش. وهناك من يريد للحرب أن تستمر ويقوم بالتشوين والتسليح. فأين الإطاري هنا؟ وسمى من يتهمون الإطاري أو “تقدم” بإشعال الحرب بالسذج الذين يبسطون الأمور.
ويرى كل من بكري ورشا أن الحرب لا يشنها إلا من امتلك جيشاً. وزاد بكري بقوله إن الاتفاق ليس “شخص” و”لا جيوش” حتى يتهم بإشعال الحرب. والحرب أولها كلام في قول سائر. والوثائق مثل الإطاري “كلام” إن خرج عن الفطانة جر إلى الحرب التي هي السياسة بطريق آخر. فلم تبدأ الحرب الأهلية الأمريكية بتجييش الجيوش. فكانت انفجرت حول “قانون العبيد الآبقين” (1850) الذي عدل نسخته الباكرة (1793) تعديلاً أغضب الولايات الشمالية لأنه تشدد في استرجاع العبيد لأسيادهم بما فاق ما جاء في الصورة الأولى منه. وخلص بكري إلى أن هجوم حميدتي الأخير على الإطاري شهادة براءة ل”تقدم” مما توصف بأنها الذراع السياسي للدعم السريع حسب نظريته عن استحالة أن تركب تهمة تسبيب الحرب بمن خلا من جيش. فها هو الدعم السريع على خلاف معهم حول صمامة الإطاري. فحميدتي يراه سبباً من وراء الحرب بينما لا يرون هم رأيه. فلو كانوا تُبعاً له لما اختلفا.
بدا لي أنه لا رشا ولا بكري من أدرك أن اتفاقاً كالإطاري مباءة خطر كبير إن تنزل فطيراً على وضع هما من شدد على خطره. فقال بكري إنهم خرجوا بالاتفاق في قحت لأنهاء الأزمة التي نشأت بعد انقلاب العسكريين في أكتوبر 2021. فكان الانقلاب قد وصل إلى طريق مسدود لعام ونصف لم يتمكن خلالها من تشكيل أي حكومة. واستنكر أن يوصفوا بأنهم من أشعل الحرب وهم جماعة جاءت لتفكك تلك الأزمة. وكأن حساب من جاء إلى حل معضلة كالتي عطلت الدولة لعام ونصف مما يتم على فرط نبله لا حسن تدبيره. واستغربت لبكري يصف الإطاري بأنه “مجرد تصور مفاهيمي” لإنهاء الانقلاب العسكري في وضع سياسي ملتهب وصفه ب”تعدد الجيوش وتعدد مراكز القيادة” وغيرها من المشاكل بإصلاح المنظومة الأمنية العسكرية. وهو الإصلاح الذي تقرر به دمج الدعم السريع في القوات المسلحة على مراحل متفق عليها. وهو نفس الإصلاح، في قول رشا، الذي جرد القوات المسلحة والدعم السريع من السيطرة على 80 في المائة من إيرادات النشاط الاقتصادي. ولا أعرف كيف تسمى هذه السياسات التي تعيد تشكيل الجيوش المتعددة وتحرمها من موارد استأثرت بها طويلاً دون الدولة “مجرد تصور مفاهيمي” كأننا في حلقة دراسة أكاديمية لا بصدد سياسات ستتنزل على تراكيب ومصالح قوى عسكرية متحامرة.
ليس الاتفاق الإطاري شخصاً وليس لديه جيوش كما قال بكري. ونشهد لقحت أنها جاءت إليه بإملاء من نبل أرادت به فض الأزمة التي اشتهرت بأنها وضعت السودان على “شفا حفرة”. ولكن النبل ليس استراتيجية. فظل حميدتي مثلاً يحدثهم عن “حاجات” في الاتفاق بدا أنها لم تتفق له. كما دأب على سؤالهم إن كان اتفاقهم هذا “سيبقى”. ولم يطرأ لقحت أن تقف منه على ما كدر خاطره تجاه الاتفاق الذي كان سيمحو الدعم السريع من الساحة العسكرية والسياسية ولكن “على مراحل” اشتجر حلولها الخلاف من يومها الأول.
نعم كان السودان في براثن حفرة. وللحفر قانون يقول إذا وجدت نفسك في واحدة منها فتوقف عن الحفر. إلا إن قحت باتفاقها الإطاري واصلت الحفر. وانفجرت الحرب. ويقال لمثلها إذا كسرت شيئاً صرت مالكاً له بغض النظر عن حسن نواياك.

موقع المنبر
Logo