القدس اللندنية
27/اكتوبر/2024
أشرنا في مقالاتنا السابقة إلى أن موضوع إحياء نهضة أفريقيا شكّل جوهر معظم مداخلات ومناقشات ملتقى الحوار الأفريقي للسلام والأمن الذي نظمته مؤسسة تامو أمبيكي في الأسبوع الأول من أكتوبر الجاري في جنوب أفريقيا. وقلنا في مقالنا السابق إن من أكبر أسباب تعثر مشروع النهضة في أفريقيا هو تمكن أنظمة التبعية في القارة عبر الاستبداد والطغيان وما أفرزته من صراعات عرقية دموية، وتجاهل لأولويات التنمية، وتفشي الفقر والجوع والمرض والفساد، والتواطؤ مع سارقي ثروات القارة. وقلنا إن قمع الفكر والبحث العلمي يمثل أحد أوجه سياسات أنظمة الاستبداد والطغيان هذه، بينما خلق البيئة الطاردة لشباب أفريقيا وأدمغتها يمثل الوجه الآخر.
وأن أفريقيا تتعرض منذ أكثر من نصف قرن لاستنزاف من نوع جديد، استنزاف الأدمغة والعقول، أي تفريغ القارة من أفضل كفاءاتها وأكثرهم تعليما وموهبة في شتى العلوم الطبيعية والاجتماعية، يجذبهم الغرب بتوفير ظروف معيشية واعدة وفرص ذهبية لتطوير الذات، تاركين وراءهم فراغا يصعب تعويضه.
وفقا لمؤسسة بناء القدرات الإفريقية ومنظمة التنمية الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، تفقد أفريقيا سنويا، منذ العام 1990، حوالي 20000 من خريجي الجامعات والمعاهد العليا، بل إن عدد المهنيين الذين غادروا إلى الولايات المتحدة وحدها يفوق ما تبقى في القارة السمراء برمتها.
ووهناك دراسة صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي في مصر، تشير إلى أن 54000 من العلماء والأكاديميين المصريين يعملون في الخارج، من بينهم 11 ألفا في مجالات عالية التخصص، كالهندسة النووية (94 عالما)، والفيزياء الذرية (36 عالما)، وعلم الأحياء الدقيقة (98 عالما)، وعلوم الحاسوب والإلكترونيات والاتصالات (193 عالما). ولا شك سيطرة الدجل والشعوذة والخرافة، وسفه القول في الخطاب، والانحطاط في فن الغناء، وغير ذلك من مظاهر التخلف، مقرونة بهجرة الأدمغة، تعتبر مقاصد أساسية للاستبداد السياسي، كون الاستبداد يخشى على سطوته من العلماء والمفكرين، ومن الاقتدار المعرفي عموما. وفي هذا السياق، يحضرنا ما ذهب إليه الكاتب والشاعر اللبناني عيسى مخلوف قبل عقدين من الزمان في ندوة الثقافة العربية والتحديات الراهنة في متحف البحرين الوطني عندما قال “فُرض على عالمنا، ذي الفضاء المغلق، ثقافة الخوف والكتمان، حيث يقوم التكفّير السياسي منذ خمسين سنة، وينضم إليه راهنا التكفير الديني، مما يحشر الكتّاب وأصحاب الفكر في زاوية التبرؤ من الكفر، مع انقطاع متزايد ما بين المثقف والجمهور. فكيف يمكن للمفكرين الذين وضعوا في حالة ارتباك مع الذات، ودفعوا إلى الرقابة على فكرهم أن يقودوا معركة التصدي والتحدي وبناء المستقبل؟”.
إن إعادة بعث النهضة، يشترط الاستقرار السياسي، لا بحد السيف والقمع، وإنما في ظل نظام حكم يصون الحريات وحقوق الإنسان ويحفظ كرامته، ويستجيب لتطلعات الشعوب ويعزز آمالها، نظام قادر على إدارة عجلة التحديث والتطور، دون قطع مع التراث ودون ارتهان له، ويعمل على ترسيخ المؤسسات الديمقراطية الحديثة، في إطار التداول السلمي للسلطة وتسييد مفاهيم المجتمع المدني وتحييد المؤسسة العسكرية.
وأعتقد أن حراك الشعوب الأفريقية والعربية الذي انطلق في العقد الثاني من الألفية، رغم ما أصابه من إخفاقات، سيفتح أبواب الولوج لمرحلة تاريخية جديدة تفوق في أهميتها مرحلة عصر النهضة العربية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومرحلة بناء الدول الوطنية المستقلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأن هذه المرحلة الجديدة يمكن أن تؤسس لإعادة بعث مشروع النهضة في ظل ظروف جديدة مغايرة كليا تتميز باندفاع رياح التغيير كمجرى موضوعي، ولأن قوى التغير هذه المرة، وهي تتطلع لحياة جديدة معززة مكرمة في بلدانها، تحمل وعي عصرها الذي أسقط تعميمات الاكتفاء بالشعارات وادعاءات الافكار المسبقة، وهي تجيد لغة العصر والتعامل مع منجزات الثورة التكنولوجية بدرجة تمكنها من تطويعها لصالح قضايا شعوبها.
إن المشروع النهضوي الجديد، في تقديري، لن يخضع لأي تابوهات سياسية أو عقدة العصبية القومية، وفي نفس الوقت سيستثمر إيجابيات العولمة إلى أقصى حد ممكن، بينما ستتصدر مصالح الشعوب قائمة الأولويات في مواجهة الضغوط الأجنبية والأطماع الخارجية، لا سيما وإن شباب التغيير لا يعرف عقدة “الخواجة”. وقطعا سيتخلق نموذج معرفي جديد، قائم على الانخراط في سلسلة من الأنشطة العلمية، عبر المؤهلين المتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة، لا لرفع شعارات عامة أو هتافات تحريضية مؤقتة التأثير، وإنما لصياغة برامج علمية المحتوى، تعكس نبض الشارع وتعبر عن مفهوم النهضة الذي ينظر إلى الإنسان باعتباره الجوهر لأي مشروع نهضوي، ويضعه فوق جميع الانتماءات الممكنة. برامج تجتهد في قضايا التراث لمواصلة استنتاجات المفكرين، أمثال الشهيد حسين مروة، حول أصالة العلاقة بين المحتوى التقدمي الديمقراطي لهذا التراث، والمحتوى التقدمي الديمقراطي لحركة التغيير المعاصرة وثقافتنا الحاضرة، دحضا لكل محاولات الإفتراء بأن المحتوى المعاصر دخيل ومستورد. وهكذا الحال بالنسبة لمناهج التعليم وقضايا تربية النشء والثقافة ومحاربة التسطيح والاستلاب الثقافي، وقضايا الشباب والمرأة….الخ.
كل ذلك في إطار البديل المرتبط بمشروع التنمية والانفتاح على آخر منجزات الثورة التكنولوجية والثقافة العالمية، والذي يسعى لتقديم المعرفة بذات الجودة للجميع بدون استثناء، وبدون أعباء مالية على المواطن. وهكذا سيتم إحياء سر البناء المتمثل في تحرير العقل وعدم اعتقاله في سجون التجريم والتحريم، مما يفتح الباب واسعا أمام نمو مجتمع مدني قادر على التصدي لدوره في التوعية والتثقيف ومراكمة جزيئات إحياء النهضة عبر تسييد قيم الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان وحب العمل والعلم والمعرفة والثقافة والاستنارة، الإصلاح الديني، وتحقيق التنمية المستدامة، وحل قضايا القوميات. نسوق ذلك دون تهويل أعمى، ودون افتراض أن الانتكاسات قد ولى زمانها.
وسنواصل بتناول شروط النهضة وبعث الأمة.