الخرطوم :المنبر 24
السيدة الشابة المعروفة بأم وعد، تعيش كنازحة من قريتها القريبة من مدينة الحوش في محلية جنوب الجزيرة. وقد وجدت ملاذًا لها ولأطفالها الخمسة في منزل أسرتها الممتدة، التي تقيم في قرية مجاورة لمدينة المناقل غرب الجزيرة. هذه القرية أصبحت ملاذًا للعديد من النازحين من قريتها، حيث تمتلئ البيوت بالوافدين.
في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها، يقيم الرجال في مدرسة محلية، بينما تتوجه النساء والأطفال إلى مدرسة أخرى لتوفير مكان آمن لهم. هذا التوزيع يعكس التحديات الكبيرة التي تواجه النازحين، حيث لم يعد هناك أي غرفة شاغرة في البيوت، مما يضطرهم للبحث عن حلول بديلة.
تعكس تجربة أم وعد واقع العديد من الأسر النازحة التي تبحث عن الأمان والاستقرار في ظل الأزمات. إن التضامن بين الأسر الممتدة في هذه القرى يعد مثالًا على كيفية تضافر الجهود لمواجهة التحديات، رغم الظروف القاسية التي يعيشها الجميع.
تواصل سرد معاناتها، حيث أخذت طفلتي إلى مستشفى المناقل، وتم حجزها هناك لمدة خمسة أيام تحتاج خلالها إلى عملية نقل دم وعلاج للملاريا الخبيثة، وقد أُصيب طفلها الرضيع بنفس المرض. وعند عودتها للمراجعة بعد أسبوع، تقرر حجز شقيقتها الأخرى لنفس السبب، ولم يكن في وسعها تحمل تكاليف الحجز في المستشفى لعجزها المالي، حيث كانت المستشفى تعاني من اكتظاظ المرضى وانتشار الأوبئة مما يعني احتمال التقاط فيروس جديد. استخدمت ما تبقى لديها من مال لشراء أدوية للطفلين آملاً في العثور على من يستمر في علاجهما، لكن للأسف لم يكن هناك كادر طبي مؤهل لإعطاء المحاليل الوريدية، الأمر الذي اضطرها للنزوح مؤقتًا إلى قرية أخرى تحتوي على مركز طبي، وبقيت هناك لبضعة أيام قبل العودة.
الآن، الحمد لله، تحسن وضع أطفالها الثلاثة. ولكن لا يمكنك التعرف على ملامح العديد من نازحي قريتها، فقد تغيرت ملامح الناس بالفعل بسبب الهموم والمرض وقلة الغذاء. أما زوجها (أبو محمد) فقد انقطع عنهم لعدة شهور بسبب انقطاع شبكة الاتصالات في المدينة التي يعمل بها في إقليم النيل الأزرق. تعرض أشقاؤها الذين يمتلكون قطيعاً من الماشية – والذي يعتبر مصدر دخلهم الوحيد – لعملية نهب مسلح قرب القرية التي نزحوا إليها، حيث فقدوا نحو 32 رأسًا من الأبقار، مما زاد من تعقيد أوضاعهم المعيشية المتدهورة أصلًا، ولم تصلهم أية مساعدات غذائية أو طبية منذ اندلاع الحرب في مناطقهم في ديسمبر الماضي، بحسب التغيير الالكترونية..
وضع أم وعد يعكس وضع آلاف الأسر في قرى منطقة الحوش بولاية الجزيرة، ففي الفترة من منتصف مايو وحتى الآن شهدت هذه القرى عمليات تهجير قسري على يد قوات الدعم السريع، حيث أجبر مئات الآلاف من المدنيين من أطفال ونساء ورجال تحت التهديد بالقتل والعنف على مغادرة قراهم، وترك منازلهم عرضة لعمليات نهب غير مسبوقة، بينما دمرت البنية التحتية المحدودة للخدمات كآبار المياه والمراكز الطبية وطواحين طحن الغلال وغيرها من الممتلكات العامة. وتشير الإحصائيات، التي يتم تحديثها يوميًا، إلى وفاة نحو 50 شخصًا من قرية (أم وعد)، معظمهم في حالة نزوح خارج القرية، من مختلف الأعمار، 3 منهم فقط قتلوا برصاص قوات الدعم السريع بينما توفي البقية بسبب الأمراض ونقص العلاج والخدمات الطبية المنقذة للحياة وقلة الغذاء.
المرة الوحيدة التي تم فيها توزيع كمية محدودة من المواد الغذائية (ذرة وصمغ وزيت وملح ولوبيا) كانت في أغسطس 2023، قبل اجتياح ود مدني بثلاثة أشهر تقريبًا، حيث وفر برنامج الغذاء العالمي بالتعاون مع المعونة الأمريكية تلك المواد مستهدفًا النازحين الفارين من ولاية الخرطوم وقتئذ، بينما لم تنل المجتمعات المستضيفة أي مساعدات. بعد سيطرة قوات الدعم السريع على حاضرة الولاية، حدثت عمليات نهب شاملة لمستودعات برنامج الغذاء العالمي، مما زاد من معاناة الناس الذين هم في أمس الحاجة لتلك المواد، بحسب ما ذكره مسؤولون كبار في البرنامج حينها، وتكررت النكبات على القرويين بسبب عمليات النهب المنظمة للمحاصيل الغذائية التي حصدها الفلاحون.
في أبريل الماضي، نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية دراسة شاملة عن تأثير النزاع في الريف السوداني، حيث شملت 4504 أسر في مختلف أنحاء السودان، الذي يعيش ثلثا سكانه في الأرياف. كشفت الدراسة عن تعطل أنشطة الزراعة لدى 50% من الأسر الريفية، حيث ترتفع هذه النسبة إلى 63% في ولايتي سنار وغرب كردفان، و66% في ولاية الخرطوم.
كما أشارت الدراسة إلى أن 59% من الأسر الريفية تواجه خطر انعدام الأمن الغذائي المعتدل والشديد، بينما تعيش 73% منها في مساكن غير لائقة. توصلت الدراسة التي غطت الفترة من نوفمبر 2023 إلى يناير 2024 إلى توصيات عديدة تشمل تقديم مساعدات إنسانية وغذائية فورية للأسر التي تواجه انعدام الأمن الغذائي الحاد وفقدان الدخل، بالإضافة إلى ضرورة التدخلات الاقتصادية السريعة، بما في ذلك برامج التحويلات النقدية الفورية لتخفيف الأعباء المالية وتمكين الأسر من الحصول على الغذاء والضروريات الأخرى. وقد ذكر نادر الشريدة، الممثل المقيم للبرنامج بالإنابة في السودان، أن فهم تأثير النزاع المسلح على حياة الناس وسبل كسب عيشهم يمثل أساسًا مهمًا للتدخلات المستهدفة وإصلاحات السياسات للتخفيف من الآثار السلبية للصراع وتعزيز القدرة على الصمود. بعد مرور أكثر من ستة أشهر على نتائج هذا المسح المثيرة للقلق، لا تزال (أم وعد) تواجه ظروفًا مأساوية دون أي تدخلات إيجابية، مثلها مثل مئات الآلاف من الأسر الريفية في منطقة جنوب الجزيرة.
قال (الحاج النور)، الذي يعكس تجربة آلاف المهاجرين واللاجئين من أبناء القرى المنكوبة: “انقضى العام ودخلنا في الثاني ولا ندري متى يمكن أن نعود، لقد أصبح وجودنا في المهجر هو الأمل الوحيد لبقاء أسرنا على قيد الحياة في مناطق النزوح، فما فائدة العودة لجعل أنفسنا عبئًا إضافيًا على المجتمعات المستضيفة؟”.
يمكن أن يكون تجمع أبناء الجزيرة في الولايات المتحدة وكندا قيد التأسيس أحد وسائل مناصرة أهلهم العالقين بين طاحني الحرب وما يرافقها من مليشيات، حيث جاء في مسودة بيانه المؤسس في نوفمبر 2024 مناشدة لتقديم المساعدات العاجلة ودعم سكان الولاية عبر التنسيق مع المنظمات الإنسانية الدولية. كما طالب بتسليط الضوء على الكارثة الإنسانية التي يعاني منها أهلنا في مناطق النزوح. فهل تصل آهات وأوجاع الأطفال (وعد وأختها وإخوانها) ومآسي أمهم، وهي تسهر بجانبهم وتحمل الرضيع في حضنها وسط الأوجاع والفقر، في انتظار أمل بسيط في العلاج والإغاثة؟