ملخص
(تقرأ أن اجتياح “الدع.. م الس.. ريع” قتلاً ونهباً وحصاراً لشمال وشرق الجزيرة هو حملة انتقامية. ولا أذكر من استدعى مماثلاً لها من تاريخنا حتى لو كان في شهرة “حملة الدفتردار الانتقامية)”.
لم يكُن من مهرب للحرب الأهلية القائمة في السودان من استدعاء فصول من تاريخه في محاولة لفهمها على ضوئه. وكانت فترة الثورة والدولة المهدية (1881-1898) هي مربط فرس هذه الاستدعاءات. وبلغ تواتر هذه الإحالات لتاريخ المهدية مبلغاً حدا بنشرة “سودان وور مونيتر”، التي صدرت لتبلغ عن الحرب، لتخصص عدداً لنقض رواية عن شعب الرزيقات الذي يُزعم له أنه حاضنة قوات “الدعم الس.. ريع” في حربها ضد القوات المسلحة، عن دوره في المهدية ثورةً ودولة. وبدا من هذه الاستدعاءات وكأن التاريخ يعيد نفسه. وعقيدة إعادة التاريخ لنفسه من مكروهات علم التاريخ والمجتمع حتى سخر منها كارل ماركس قائلاً “يعيد التاريخ نفسه حقاً، في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمسخرة”. ولكن لا مهرب أمام الناس مع ذلك من إحالة حاضرهم إلى ماضيهم بالطبع. وربما كانت العبارة الأمثل عن استدعاء الماضي في زحام الحاضر هي ما جاء على لسان الكاتب الأميركي مارك توين الذي قال إن التاريخ لا يعيد نفسه، فكل ما في الأمر أنه يأتي للحاضر “على قافية” (rhyme)، في قول المصريين.
يخضع شمال ولاية الجزيرة وشرقها منذ الـ20 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لانتهاكات فظة على يد قوات “الدعم السريع” ثأراً لانسلاخ قائده في الولاية أبو عاقلة كيكل (52 سنة) عنهم وانضمامه إلى الجيش السوداني. فاقتحمت “الدعم السريع” المنطقتين لانتماء كيكل إليهما، خصوصاً بلدتي تمبول والهلالية اللتين احتلت وقائع
استباحتهما الخطوط الرئيسة للوسائط الإعلامية. وكيكل من جنس مغامري “دولة الإنقاذ” (1989-2019) ممن أدوا خدمات مشبوهة أو أخرى لها، وانتهى مهرباً رباطاً. وكان أول ظهوره قائداً لقوات “درع السودان” بين ضباط معاشيين من القوات المسلحة قبيل الحرب بقليل، رأوا سخاء الدولة مع مسلحي دارفور في اتفاق جوبا (عام 2020) وأرادوا مثلها لقومهم في الشمال والوسط والشرق.
وما قامت الحرب حتى انضم إلى “الدعم الس.. ريع”، وكانت معركته الأولى قبل احتلال ولاية الجزيرة، هي الهجوم على ضاحية العيلفون بالخرطوم وتهجيره القسري لأهلها منها. ثم عيّنه محمد حمدان دقلو، قائد “الدعم السريع”، قائداً لمنطقة الجزيرة التي يقال إنه هو من احتلها لـ”الدعم” ربما بغير أمر من أعلى. وارتكب مع غيره من قادة “الدعم السريع” في الجزيرة انتهاكات واسعة بحق المدنيين من بينها القتل والنهب والحرق. وسلمت تمبول والهلالية إلى حين لما ذاع أنهما قبلتا بالتعايش مع “الدعم السريع” تحت مظلة كيكل
يومين. ولما قال المك للباشا أن ذلك فوق استطاعته، وبّخه ولطمه على وجهه بغليونه. فأسرّها في نفسه ليدعو إسماعيل وقادته إلى وليمة بقصره. وطوال ما كانوا يتناولون مطايب الأكل والشرب كان قوم “المك نمر “يطوقون المكان بالحطب والقش. وأشعلوها حريقاً قضى على إسماعيل وصحبه. ثم أحاطوا بالجنود الذين كانوا في موضع آخر فقتلوهم عن بكرة أبيهم. وانتظمت بين شعوب الحسانية والجموعية والجميعاب والقريات على النيل والنيل الأبيض ثورة بعد الحريق في وجه الحاميات المصرية في الدامر وسنار وكرري والحلفاية.
وما سمع الدفتردار بمقتل إسماعيل حتى قاد قوة ضاربة من كردفان إلى النيل ليعينه محمد علي باشا لاحقاً ساري عسكر السودان. وقتل عامله على بربر 7 آلاف من الجعليين في الدامر ممن أحدقوا بمدينة بربر، وحرق مسجد السادة المجاذيب “كأنه دار أصنام”. ولم ينتظر “المك نمر” حملة الدفتردار، ففر بجماعته شرقاً مطارداً من موضع إلى آخر في اتجاه جنوب شرقي الحبشة. ثم توجه الدفتردار جنوباً مروعاً القرى في طريقه، فقاومه أهل العيلفون فهزمهم، وقتل فيهم وأهان من وقع في يده، ولاحق “المك نمر”، قاطعاً النيل الأزرق عند بلدة أبو حراز إلى الدندر والرهد. وبلغ نهر العطبرة، وحارب شعب الهدندوة والشكرية، يقتل وينهب ويخرب. وعلى رغم ذلك الخراب والتنكيل لم يعثر على “المك نمر” الذي لاذ بالحبشة وأقام ملكه هناك. وكان محمد علي باشا واقفاً على حيثيات الحملة الانتقامية تلك. فيأمرهم بالتوجه مثلاً لشعب الشكرية والبشاريين لينزلوا عليهم العقاب ويوبخهم للتقاعس. ومن سخرية القدر، أو مأساته، أن الجمعية الجغرافية في باريس قبلت الدفتردار عضواً في مجمعها للخرائط التي كان يرسمها بالدم في حملاته الانتقامية وأعجبتهم.
-انت خائن. خنت ناسك.
ليست من خصائص بعينها تأذن لنا بالقول إن حملتي “الدعم الس.. ريع” والدفتردار مما يستعيد أحدهما الآخر سوى في وقوعهما في نطاق جغرافي واحد حتى في السودان، النيل والجزيرة. ولا تحتاج حملات “الدعم السريع” التأديبية إلى التاريخ لتواقع حملة من جنسها عليه. فتأديب “المتمرد” هو في الوصف الوظيفي الأصل في نشأة الدعم في دولة الإنقاذ الآفلة. فسجله في إخضاع “العصاة” مما سود الصفحات في دارفور في منتصف العقد الأول من القرن معروضاً أمام المجتمع الدولي ومؤسساته ومحاكمه. فليس ما اقترفه “الدعم السريع” في دارفور في 2004، ولا يزال، تاريخاً بعد. ولربما صدق هنا مارك توين في أن التاريخ “يقافي” (إذا صح التعبير) الحاضر لا يعيده كما تذهب العبارة. وهي “مقافاة” نطمئن بها على أن زمام الأمر مهما يكُن بيدنا لا يزال.