في ذكرى رحيل وردي: العمر إطلالة واحدة ..وحقو نتحدى السُكات بأغنيات جديدة واعدة!

فنون: هيثم كابو
* حالة من الصمت المهيب تسيطر على الجمهور الذي تقاطر من كل فج عميق لتمتلئ مدرجات وتفيض جنبات المسرح القومي بأم درمان عن بكرة أبيها في تلك الأمسية الاستثنائية وذاك اليوم الموعود .. عدسات المصورين الصحافيين تنتقل ما بين الخشبة وتلك الجموع الغفيرة التي تقف على أقدامها بعد فشلها في العثور على أماكن للجلوس، ولم نكن – نحن الجالسون في المقاعد الأمامية – أفضل حالاً منهم، فمشاعرنا قد سبقتنا وسبقتهم على الوقوف !.
* فرادة أمسية (الخميس 20 أبريل 2006م) وتميزها عن سواها من الليالي تمثل في أن مطرباً عملاقاً بحجم الراحل محمد وردي ذلكم القامة الشاهقة والمنارة السامقة لم يكتف وهو في هذه السن المتقدمة من العمر بأن يلتقي بجمهوره في حفل جماهيري حي (أذناً لحنجرة)، بل سيعيد تقديم (الطير المهاجر) رائعة (صلاح أحمد ابراهيم) بصورة جديدة مع أنها لا تزال – أيقونة الحاضر والماضي التليد – ورغم كل هذه السنوات الطوال تعد (أجد من كل جديد).. !
* بالفعل جلس وردي على المقعد ومن خلفه فرقة موسيقية شابة الحس والسن ، وفتية الاحساس، قوامها مجموعة من العازفين المهرة .. توالت الروائع تباعاً في أمسية رفعت شعار :
(ممنوع اصطحاب الدهشة، فأنت في حضرة حنجرة لا تشيخ، وإرادة لا تقهر، وعزيمة لا تعرف الانكسار)..!!
* ليس مهماً أن نتحدث عن نبوغ وردي الفني وعبقريته الموسيقية، فتلك من الثوابت الفلكية والحقائق الكونية .. ولكن المهم حقاً أن نأخذ العظات والعبر ونستخلص الدروس من تجربته الحياتية واصراره على الصمود والمقاومة حتى رحيله عن الدنيا، فالرجل كان حائط صد للأزمات المتلاحقة المتشابكة، وعنواناً عريضا للتحدي والقفز فوق أسوار الحياة الشائكة ..!!
* الحدث الأهم في ذلك الحفل الأسطورة تمثل في تقديم وردي لأغنية جديدة بعنوان (نختلف أو نتفق) صاغها شعرا الراحل المقيم سعدالدين ابراهيم، وتلك وقتها كانت رسالة لأهل الفن ببلادي إن كانت أجهرة استقبالهم تفك شفرة مثل تلك الرسائل، وتعي المقصود منها، وتدرك هدف ارسالها .. فشكراً نبيلاً لوردي صاحب السفر الغنائي الضخم وهو يقدم أعمالاً جديدة حتى قبل رحيله بأيام؛ ودونكم (يا وجهها) رائعة أمل دنقل التي تغنى بها في حفل أستقبال العام الذي شهد رحيله بعد ثمانية وأربعين يوماً بالتمام والكمال، في الوقت الذي صام فيه الكبار والصغار بالساحة الفنية عن التجديد والتجويد ..!
* وضع الجمهور يومها آذانه على حافة خشبة المسرح، وألصقها بمكبرات الصوت، بينما صوبوا أنظارهم وكل حواسهم نحو الفنان الكبير وهو يصدح بأغنية جديدة – بعد مقدمة موسيقية متقنة – شادياً :
نختلف أو نتفق .. تقنعيني وأقنعك .. نختصم أو نصطلح .. تسمعيني وأسمعك
المهم إنو الحوار .. يستمر ما ينقطع
المهم إنو الجدار .. ما يعلو أكتر ويرتفع ..!
* وبينما وردي يردد في الأغنية (الملحمة) والكل يصب تركيزه مع هذا العمل الجديد .. طافت بذهني ذكريات وأحداث مرتبطة بالأغنية ارتباطاً وثيقاً، منذ أن خصني صديقنا الراحل سعدالدين ابراهيم باطلاعي على نصها – ظناً منه أني أتمتع بذائقة فنية جيدة وحس عالي النبرة – وطلب مني وقتها أن أقول له رأيي في (نختلف أو نتفق) .. وللحقيقة أعجبتني الفكرة جدا، وشدني المضمون، وبساطة التناول، ويسر الطرح الخالي من أية فذلكة أوتقعر وتعقيد ..!!
* الأغنية حسب فهمي الخاص تؤسس لخدمة المفاهيم النبيلة، وقد لخصت أبعادها المتجاوزة قبل عدة أيام في نقطتين مهمتين هما الدعوة للإبقاء على الثوابت، وعدم تأثرها بحركة رياح التغيير السلبي، وعواصف الخلافات التي تهب على الحياة والمعاملات بين الفينة والأخرى، والنقطة الثانية تتمثل في ضرورة استمرار الحوار وسيادة المنطق والمقارعة بالحجة في أحلك الظروف عندما تضطرب العلاقات وتتسع شقة الخلافات وتتفاقم الأزمات في كل مجال ..!!
* أعلنت انحيازي السافر لهذه الأغنية عند سماعي لنصها منذ الوهلة الأولى، وكم تمنيت عندئذ لو تغنى بها مطرب شاب، وبالفعل رشحت لها الراحل محمود عبدالعزيز وكانت في طريقها الى حنجرته عبر لحن من بنات أنغام الشافعي شيخ إدريس، إلا أن تطورات حدثت عندما تغنى بها حمد الريح عبر لحن صاغه صلاح ادريس سريعاً ما وئد – وهذه المرة لم اكن طرفاً في الموضوع من قريب او بعيد – ولو أني استبعدت وقتها ذلك الأمر ألا أن الزميل الرشيد علي عمر الذي كان من الأصدقاء المقربين للأرباب آنذاك أكد لي خطأ افتراضي، وأصر في ذات يوم قبل سنوات خلت على أن أرافقه بدعوة من صلاح إدريس حتى أستمع إليها بصوت حمد الريح في احدى البروفات ليقنعني بيان بالنظر قبل السمع، وقد كان ..!
* مرت الأيام تباعاً وتفرق دم النص ما بين حمد ومحمود .. حتى جاء يوم أقمت فيه صالوناً فنياً مغلقاً ناقشنا عبره موضوع (الأغنية السودانية وكيفية الخروج من نفق المحلية)، وتشرفت يومها بحضور كل من (محمد وردي – سعدالدين ابراهيم _ د. الفاتح حسين – أنس العاقب – شكرالله خلف الله ووليد زاكي الدين)، وقلت في ختام الجلسة لوردي :
(أنك تحدثت الآن عن ندرة النصوص الشعرية الجيدة التي تناقش قضايا آنية .. دعني أرشدك على نص صاحبه بيننا .. فأعجبته الفكرة والمطلع .. وقرأ سعدالدين النص كاملاً .. فكان الاعلان الرسمي عن ميلاد أغنية جديدة لمحمد وردي .. وحينها غمرني فرح بلا حدود، وحاولت أن أبرز ذلك التعاون الجديد والاحقه بالسؤال عنه يوماً بعد الآخر .. ومن يرى اهتمامي بالأغنية يحسبني كاتبها أو ملحنها.. ولا يفوتني أن أقول أن صديقنا سعدالدين كثيراً ما ذكر مناسبة هذا التعاون الفني الكبير في أكثر من منبر إعلامي بشيء من الانصاف والتقدير لأحد أبنائه، وذلك بالطبع أمر يشرفني جداً.. فما أجمل أن ترتبط بصناعة الجمال وأروع الأغنيات والأعمال..!!
* رحم الله وردي وأستاذنا سعد الدين وتلك الأيام التي كان فيها الحوار والبحث والإنتاج يمثل الشغل الشاغل للمبدعين .
* الحياة زيارة وفوات والعمر اطلالة واحدة .. تفضل أجمل ذكريات المواسم الحلوة شاهدة .. نحرس الأمل الموات والظروف الما مساعدة .. ولا نتحدى السُكات بأغاني جديدة واعدة.

موقع المنبر
Logo