فوزي بشرى
كتابتي هذه المقالة أن يقع من الأحداث في شأن الحرب و السلام ما يكذب سوء ظني بالقوى المدنية الديمقراطية التي قالت إنها ليست طرفا في الحرب الدائرة، و لا هي منحازة إلى أي من أطرافها و إن غاية ما تصبو إليه مستفرغة جهدها فيه هو تحقيق السلام بالسعي بين قيادة الجيش و بين قيادة الدعم السريع. و هو سعي أرادته هذه القوى ترجمة لموقفها المعبر عنه بشعار (لا للحرب). و كان رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق قد أخبر أنه أرسل برسالتين للفريق عبدالفتاح البرهان قائد الجيش و الفريق محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع في هذا الشأن. لكن ما أن ظهر حميدتي بعد طول اختفاء زائرا أكثر من دولة إفريقية حتى تحلقت هذه القوى حوله و سارت في ظله توشك تمسك بطرفه ثم نسيت ما كان من (أمر سعيها) بين الأطراف لبحث قضية الحرب والسلام. لقد خرجت ما تسمى بالقوى المدنية الديمقراطية من (تقيتها السياسية) التي عقدت لسانها طيلة شهور الحرب فلم تستنكر انتهاكات الدعم السريع الواسعة إلا وهي كارهة، ولم تغادر رؤيتها الحرب صراعا مع الفلول، ولم تستطع أن ترى في هزيمة الجيش انهيارا كاملا لآخر ركن في الدولة هو عمودها المكين. هرعت القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) الى حميدتي وكأنها تستأنف تنفيذ (تحالفها غير المكتوب معه) حين كانت تمني حميدتي و يمنيها بين يدي (الاتفاق الاطاري). ذلك كان تحالفا مضمرا بين بنادق حميدتي الصائلة و بين الحرية و التغيير – المجلس المركزي باعتباره الجسم الممثل لثورة الشعب السوداني وتطلعه إلى الديمقراطية والحكم المدني. لا أحد كحميدتي كان يعرف بؤس تلك القيادات فما أكثر ما ذمها و سخر منها. لكن ما حيلتها و لا مركب لها غير مطايا حميدتي النجيبات. لا حيلة لها فشرط وجودها السياسي أصبح متعلقا به و بظله. أما حميدتي فلا يريد من (تقدم) إلا القناع المدني. من (رحم هذه الانتهازية السياسية) خرج إعلان المبادئ بين حميدتي وبين تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم). وإعلان المبادئ هو بالضرورة (اتفاق سياسي) يكرس حميدتي زعيما سياسيا مستبدا بقوة جيشه. أما القوى المدنية فحسبها (العيش في كنفه) ولا بأس وهي تفعل ذلك أن تجتر المقولات القديمة حول (التحول الديمقراطي و الحكم المدني).
لقد كانت (تقدم) أسوأ مما توقعت، وعززت صدق ما كنت أرجو تكذيبه وهو أن الحد الأدنى من الحصافة السياسية لو توافر لها لجعل قدرا ضئيلا من حسن الظن في بعض رجالها عاصما من رميها بالسذاجة السياسية ومن اتهامها بأنها تحت إغواء السلطة اساءت للشعب السوداني مرتين: مرة بخذلانها إياه ساعة حاجته الى (مؤسساتها) تؤوي وتغيث وتدفع عنه بحسن صلتها بقائد الدعم السريع؛ ومرة بتحالفها مع حميدتي من (أجل تأسيس الدولة السودانية وتحقيق رفاه الشعب السوداني). لم تكذب وقائع ما جرى في العاصمة الاثيوبية من خروج المخبوء إلى العلن سطرا مما كتبت. فليس ثمَّ غير الشراب القديم في الآنية القديمة نفسها. من يشربه وقد تجرع الشعب من قبل علقمه؟!
أما وقد استوى أغنياء السودان وفقراؤه، وتشرد سياسيوه في الآفاق ولجأوا لجوء عامة أهله وتشردهم، وتعرضت معظم مؤسسات النفع العام والخاص فيه للدمار، واتسع فتقه الاجتماعي على حيلة كل (راتق) من أولئك المجترين للعبارة المستهلكة في سوق السياسة السودانية حال وصفهم تصدع البنى الاجتماعية فيجعلون من مهمتهم المتوسلين بها إلى الشعب أنهم سيسعون إلى (رتق النسيج الاجتماعي) دون أن يسألوا وهم تحت سلطان الاستعادات غير المفكر فيها: عمن الذي فتقه وكيف ولماذا؟
أما وقد تخاصمت جغرافية السودان لما استعرت فيه النوازع العنصرية والولاءات المناطقية فصار الشمال أكثر شمالا، والغرب أكثر غربا والشرق أكثر تشريقا، وأخذ الوسط يتلمس هوية تخرجه من (روحة البين بين).
أما وقد أصاب عسكريته النظامية والمليشاوية ما أصابها من الوهن واضطراب عقيدة سلمها وحربها فدخلت جميعها في حرب مدمرة هي التجلي الأكثر وضوحا لأزمات البلاد جميعا بعد أن شبعت السياسة السودانية موتا وقلة َ حيلة من جراء ما أصابها من(أنيميا فكرية ووطنية) ألجأتها إلى إسلام قيادها إلى رعاة ليس لهم في التجريب الديمقراطي (كسبٌ في طرف من نهار) ليقودوها في المسالك الوعرة (للتحول الديمقراطي والحكم المدني). وهو انقياد (يفضح خورا فكريا وأخلاقيا ليعبر عن محض انتهازية متكسبة بالسياسة).
أما وقد تكشف لكل ذي عينين أن الحرب الناشبة هي حصيلة عشوائيات شتى في السياسة والعسكرية والاقتصاد والاجتماع، وهي جميعها منتجُ عقلٍ عشوائي فشل في تأسيس العلاقة السوية للشعب السوداني مع موارده بما يخرجه من فاقته وعوزه إلى رحاب تنمية حقيقية يتحقق بها عز المواطن وكمال كرامته وحريته، عبر اجتراح (التصورات الكبرى) للوطن وبنائه وللنهضة المتأسية بتجارب الدول التي نهضت بموارد أقل وفكر أكثر. وبعد أن بدت الحاجة ملحةً إلى مراجعات عميقة من قبل علماء السودان ومثقفيه تتقصى أسباب العجز وعلل الوطنية السودانية في مراحل تخلقها المختلفة السابقة لما يسمى بدولة 56 و(لقانون الجنسية السودانية) نفسه، وبعد أن تبين للناس كافة من سيرة الحرب خلال 265 يوما أن وطنهم قد صار مطمعا لغيرهم وساحة لأفعالهم الآثمة، وأن إضعافه وتدميره وترويع أهله وإرهابهم وتشتيت شملهم ودفعهم إلى مغادرته طلبا للسلامة هي الشروط اللازمةلحيازته والاستيلاء عليه. وقد بات من المعلوم بالتجربة الماثلة من جراء الحرب أن السودان ينطوي على ضعف مؤسسي وأن الذي حدث فيه ليس سوي (تجريب أولي) في (إفراغ الأرض من ساكنتها) ريثما تكتمل دائرة الإحاطة بها. فصيرورة التاريخ تقول في شواهدها المسطورة والمنظورة أن مصائر الإمبراطوريات والممالك والدول ما تنفك تتقلب بين الإنشاء والمحو (راجع الخريطة السياسية لأوروبا خلال الثلاثة والثلاثين عاما الأخيرة). تاريخ أوروبا القريب يريك ألا دوام لشيءٍ متى افتقر إلى شروط وأسباب بقائه. وبعد أن عرف الناس من بلايا الحرب الجارية اليوم وخبروا من رزياها ما خبروا وبعد أن تيقنت أكثرية الشعب أن الحرب مران في (الإفناء الذاتي) وأنها تُخاض بنوازع دنيا وبشعارات تتكشف عند الفحص عن (لغو من القول لا مبدئية ولا مقاصد عليا فيه).
لقد أثبت البرهان أنه ليس جديرا بقيادة جيشه أو شعبه، فلا سيرة سياسية تزكيه ولا أداء عسكريا يشفع له عند الجيش قبل الشعب من كثرة ما فشل في الأمرين معا. وفي المقابل فإن محمد حمدان دقلو قائد الدعم السريع ما عرفت عنه انشغالات سياسية توطنه زعيما في متن صراع الأطراف مع المركز. بل إن المفارقة الكبرى تتجلى في أن حميدتي يدين بظهوره العسكري لحركات الاحتجاج المسلح التي اشتهر بقتالها لصالح حكومة البشير. وبهذا المعنى يكون حميدتي خلقا إنقاذيا كامل الخلقة لا شريك للانقاذ فيه. فالتجربة (النضالية) لحميدتي وقواته كانت في محاربة الحركات المسلحة في دارفور لصالح الإنقاذ. ولذلك سيبدو لجوء حميدتي لأدبيات (الغبن السياسي والاجتماعي التي كتبتها حركات الاحتجاج المسلح) سيبدو ضرورة رتبتها حاجة حربه إلى مضمون قيمي سواء كان ذلك المضمون القضاء على الإنقاذيين (الفلول) أي رموز النظام السابق، أو بالاستدراك على غفلته حين علم بعد جهلٍ طبيعة َ مهمته الجديدة التي تكرسه قائدا ثوريا راديكاليا يجتث ما يسمى بدولة 56 من جذورها لإقامة دولة المستضعفين ونصب موازين العدل الاجتماعي، كل ذلك تكفلت الحرب بكشفه.
ولذلك فإن لقاء البرهان/حميدتي انعقد أو لم ينعقد ليس (شرطا ضربة لازب لعافية السودان واستقراره). فالحرب والسلام كلاهما أكبر من الطاقة الوطنية والفكرية وربما الأخلاقية لكليهما. فالسلام المراد للسودان أبعد مطلبا من قدرتهما على تصوره فضلا عن تحقيقه. السلام المطلوب في السودان ليس بوقف الحرب وإسكات البنادق بل بتقصي بذرة الحرب الكامنة في السياسة والاجتماع وفي نظم الحكم والتعليم والهوية الوطنية المتشظية.وكل هذا ثقل ٌ أثقل بكثير من الأنواط التي تزين كتفي وصدري الجنرالين. فهما انتهيا إلى حيث هما عن طريق مصادفات وسوانح اهتبلاها دون سابق تدريب لتسنم المناصب التي تقلداها. فلا البرهان بتدريبه العسكري كان معدا للحكم إعدادا مسبقا، ولا حميدتي بتجربته العملية مستوف لشروط الرئاسة. وهكذا بدا كما لو أن مسار البلاد السياسي والعسكري خلال السنوات الأربع الماضية كان نتيجة للمصادفات وضحية لها في الآن نفسه. لقد كانت تجربة غير مسبوقة من الجرأة على طلب ما لا يطلب بغير حقه.
الآن وقد أخرجت الحرب تكاليفها وتبعاتها الثقال فإن الحكمة والرشد المُخرجين الناس من براثن اليأس والقنوط والشعور بالضياع الوطني يقتضيان أن تكون كل شواغل الحكم وشؤونه وشجونه في الدولة الجديدة الخارجة من (رحم) الحرب أمرا مفكرا فيه بعمق ومقلبا على وجوهه المختلفات، لا أن يترك للمصادفات والتطلعات الجزافية بغير سند. فهذه الشواغل أجدر بها أن تكون قضايا لأبحاث مستفيضة يعكف عليها (معمل سياسي وطني) يسند إلى علماء السودان في مختلف ضروب المعرفة للانكباب عليها والخروج بما سيكون أساسا متينا مجمعا عليه للدولة السودانية الجديدة. فليس كسانحة الحرب سانحة للتأمل في الخراب وفي تصور النهوض وتخيله. فإن استقال عقلنا السياسي وجماع تجربتنا السودانية المعرفية والسياسية عن المهمة الوطنية الواجبة هذه الساعة، ووقع بدلا من ذلك انكفاء نوستالجي على الماضي الذي ذهب، وبكاء على الطلل الدارس، ودخل علماؤنا في تشقيق الكلام في صالونات الأنس المتحسر على ما فات والخشية مما هو آت، وانتهت مجالسنا إلى أنس نلقي فيه الرأي المجرب أو الخاطرة العجلى في شأن الحرب والسلام لتتبخر الأفكار بانفضاض المجلس، إذا حدث ذلك فقد بطل السعي من طلب موعظة الحرب لبناء الدولة على أسس جديدة في كل شيء. تساءل غوستاف لو بون في كتابه الذائع الصيت (سيكولوجيا الأزمنة الحديثة) مستغربا: كيف نجح ستون ألف إنجليزي في إبقاء ثلاثمائة مليون هندوسي يتساوون معهم في الذكاء تحت نير العبودية؟ واعتبر أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى (شخصية الغزاة). وأياً ما كان استخلاص لو بون وهو يعرض لخصائص القوة والضعف لدى الشعوب فإن موضع الشاهد ومحل الاعتبار هو ضرورة وضع (الشخصية السودانية) موضعا للتحليل ولبحث مكامن قوتها وضعفها وبيان ملكاتها الإبداعية وخصائصها الناهضة بها أو القاعدة بها عن الحركة والفعل، لأن الحرب جعلت من هذا الأمر ضرورة والحاجة إلى تحقيق السلام تجعل منه واجبا غير قابل للتأجيل. فقد كان من مستتبعات الحرب أنها عرّت ما كان خافيا.
ولما صار من غير المعقول بناء الدولة السودانية فوق الركام المادي والمعنوي الذي يسد الأفق وتفيض به النفوس، بالقفز العجِل على فصل (الحرب اللعينة) كأن شيئًا لم يكن، أو بالقيام الكسول من ظل لافتة (لا للحرب) فقط لأن البنادق سكتت، فإن ذلك سيكون عين العبث الذي هو وصف آخر للحرب في قول بعضهم من الذين يكتفون بوصفها (بالحرب العبثية) ثم لا يزيدون جملة. والعبث صفة يمكن أن تلحق بالسلام لحوقها بالحرب فتقول مثلا (السلام العبثي) وهو سلام متحقق ليس بشروطه ولكن بشروط عدم القدرة على الحرب التي ستنشب متى استكمل المسالمون على مضض شروط القوة اللازمة للدخول فيها.
الحروب لا تنشأ من فراغ ولا تنتهي لأن النفوس عافت القتل أو أصابها الإعياء، الحروب تنتهي حين تنتهي أسبابها. فإن سكنت الحرب دون استيفاء شروط السلام فإنما هو سكوت بركان. فاذا صح هذا فإن أول شروط البناء الجديد – والجدة لا تستصحب قديما – وجب أن يصار إلى الآتي يزاد فيه أو يُنقص:
1- تعبئة الشعب السوداني في مدنه وقراه للخروج في مظاهرات تدعو الجنرالين عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ومحمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع بالوقف الفوري للحرب فإن لم يتمثلا للطلب الشعبي يطلب الشعب السوداني تدخلا دوليا من الأمم المتحدة يوفر الأمن والأمان للشعب ويصون كرامته ويفرض سيطرته ريثما ينظم الشعب نفسه ويقيم حكومته هو، وبإرادته هو دون تدخل من أي جهة أيا كانت. إن الاستنفار الشعبي للدفاع عن الذات وعن الوطن ينطوي على (إمكانية سياسية) عظيمة الأثر من حيث فرض الإرادة السياسية للشعب عبر التظاهر والتكتل المتصاعدة وحدته وصلابته لاستعادة حقه المسلوب في تشكيل (حكومته). فقد اختطفت إرادة الشعب طيلة الفترة الانتقالية وترك أمر البلاد لبضع عشرات من (الساسة الهواة). وقد تم على أيديهم (تبديد الطاقة الثورية) حتى أنكرتهم الشوارع. وقد جاءت الحرب لتبين للشعب خطورة استقالته عن دوره وترك (أمر السلطة) لا تكاد تعنيه في شيء حتى تيقن من جهة الابتلاء فداحة ما يمكن أن تفعله (السلطة السيئة) إنها تكون أكثر الطرق لضياع الوطن وقد ضيعته. غير أن الحرب بكل مآسيها تمنح الشعب فرصة أخرى لاستعادة ما ضيع وذلك بتجاوز (الموقعين باسمه من غير تفويض) وبفرض إرادته على (المتقاتلين عليه) و (على سلطته) وذلك بتشكيل جبهة وطنية واسعة تضم أهل السودان جميعا تبتدع وسائلها في مقاومة الحرب من أجل السلام وفي فرض إرادتها السياسية.
2- وإذا سألت من هي الجهة المنوط بها قيادة هذه الجبهة الشعبية لتحرير إرادة الشعب المختطفة فهي ليست أحدا غير (نخبة الشعب السوداني) الحائزة أعلى الشهادات العلمية من جهة، وزعماء قبائله وعشائره من جهة أخرى. إذ لابد من إنهاء القطيعة المستحكمة بين الفريقين وسوء الظن والريب التي تحكم العلاقة بينهما. إن ضرورة الخروج من حالة الشلل وانتظار ما يأتي به الزمن من حلول لهو عين الضياع الوطني. على النخبة السودانية (المتهمة بإدمان الفشل) أن تكون على قدر المهمة المنتظرة منها وهي العمل على إخراج البلاد من غيابة الجب. فليس من قافلة تمر لإنقاذ أحد بل هي حيلتك ومضاء عزيمتك في طلب النجاة. لقد مثلت النخب دائما رأسمال أي أمة في السلم والحرب. والنخبة السودانية هم (خلاصة تجربتنا المعرفية) في مختلف ضروب العلم ويجدر بهم في ظل هذه المحنة الوطنية أن يكونوا ملاذ الناس ونهاية مرتجاهم لإخراج الشعب من هذا التيه المأساوي.
إن نهوض (النخبة) بالمهمة الوطنية المعلقة برقبتها تكفر عنها كل فشل اغترفته من قبل في تهمة الراحل منصور خالد لها ليس بممارسته بل بإدمانه. وأول مطلب في هذا المسعى أن تتواضع النخبة على شروط الحاجة إلى عملها الجماعي واعتزال حالة (السولو السياسي) وذلك بالكف عن (التغريد المنفرد) أو (النواح المنفرد) لا فرق. يلزم النخبة وهي صاحبة الدراية والمعرفة أن تعمل على تشبيك علاقات تخرج صوتها من خفوت (الفردانية) إلى جهارة صوت (الجماعة). الجماعة القائدة والمتواصلة بإيجابية مع ركائز المجتمع الأهلي وهم حتى ساعتنا هذه زعماء القبائل وليس زعماء الأحزاب. فالشعب لم ير خلال محنته زعيم حزب مواسيا، أو استنفار حزب لعضويته لغوث ملهوف أو العناية بنازح لا يجد مستقرا. النخبة هي من بيدها خلاص الشعب ومن بيدها قيادته لتشكيل حكومته المعبرة عن إرادته. والسبيل الى ذلك الثورة الشعبية فإرادة الشعب دائما غالبة. وبين النخبة والقوى الأهلية التقليدية توجد الكتلة الشابة التي تضم الملايين من الشباب الذين فاضت بهم الشوارع باذلين أرواحهم ودماءهم لفتح طريق الى مستقبل ما أطول ما تجهم في وجوههم على مدى عقود. هذه الكتلة الشابة التي عبرت عن أكثرها لجان المقاومة كانت وستبقى الجسم المعبر عن (الحالة الثورية المتطلعة دائما) إلى وطن على قياس أحلامها في طلب كمال الأوطان. لا ثورة بغير شباب ولا تغيير حاصلا ما لم يتزود بحماستهم وجسارتهم وطهارة ضمائرهم.
3- أما إذا وافق الجنرالان عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو على وقف الحرب من تلقاء نفسيهما تحت ضغط الاستنفار الشعبي الصائر كتلة سياسية بمطالب سياسية تحرر سلطة الشعب من الخاطفيها فهلوة أو همبتة، إذا حدث التخلي (كما تخلى مبارك وزين العابدين) فيتم الترتيب معهما على الخروج من المشهد العسكري والسياسي ويخلي سبيلهما (ثمن السلام). يقوم الفريق البرهان بتسليم السلطة إلى حكومة يختار رئيس وزرائها ورئيس البلاد برلمان انتقالي من الكفاءات العلمية (النخبة) غير المتحزبة ومن زعماء القبائل.
4- يصار بعد انتقال السلطة إلى الحكومة الانتقالية الممثلة لإرادة الشعب إلى إلغاء الوثيقة الدستورية المؤسسة للسلطة الانتقالية السابقة.
5- يتكون البرلمان الذي سيكون مسؤولا عن مراقبة السلطة التنفيذية والعسكرية في البلاد من مائتي عضو مائة منهم من حملة الشهادات العلمية العليا (الدكتوراه)، ومائة يمثلون القوى الأهلية التقليدية تختارهم ولايات السودان بحسب الكثافة السكانية لكل ولاية. تركيبة البرلمان من القوى الحديثة والقوى الأهلية التقليدية سيكون من شأنها كسر العلاقة النكدة بين الطرفين. فالقوى التقليدية كثيرة الاسترابة من (الأفندية) قليلة الثقة بهم، أما القوى الحديثة فهي وفيرة الشك تجاه القوى التقليدية تراها دائما قوى مكبلة لانطلاق الدولة. وربما كان أهدى الطريقين في حالتنا الراهنة أن يصار إلى مزواجة التجارب بين الطرفين واستئناس كل فريق بما لدى آخر في رفق منقطع عن لجاجات وحزازات وغبائن الماضي. تكون مهمة هذه الهيئة الوطنية غير المتحزبة أو المنحازة لأي من طرفي الحرب اختيار رئيس للبلاد ورئيس للحكومة يستمدان شرعيتهما من سلطة الهيئة. ويتم تسيير الحكومة بقرارات رئاسية تكون محل تشاور بين الرئيس والحكومة وتجيزها أو ترفضها الهيئة الوطنية. وتكون مسؤولية الحكم الانتقالي وظيفية منصرفة إلى تحقيق المهام المتعلقة بالأمن والصحة والتعليم …إلخ. ولا يكون من صلاحياتها الحق في تجاوز هذه المهام الوظيفية طيلة سنيها فلا تتدخل في أي تعاقدات خارجية ترتب أي تبعات أطول من أمدها في الحكم.
6- يتم دمج قوات الدعم السريع وقوات كل الحركات المسلحة لتكوين جيش واحد يكون الجيش السوداني نواته وعموده ويأتمر بأمر السلطة الانتقالية القائمة.
7- تختار السلطة القائمة هيئة عسكرية سياسية وطنية غير متحزبة يعهد اليها بوضع هيكلة للجيش وصياغة عقيدة قتالية وطنية. ويصار إلى تصميم برامج وطنية يضعها مختصون في السياسة وعلم النفس وعلم الاجتماع وتضم رجال دين مسلمين ومسيحيين يكون الغرض منها إعادة تأهيل القوات الخارجة من الحرب وربطها بأهداف وطنية عليا فوق الإثنيات والمناطقيات والروابط الضيقة. فلا تكون لفكر سياسي أو لجماعة أو لجهة أي قيمة فوق قيمة الوطن ولا تعلو هامة كائن من على هامته.
8- جمع السلاح طواعية من كل المواطنين فلا يكون إلا بيد الأجهزة النظامية، وهو ما يقتضي بناء جهاز شرطي على قدر عال من الكفاءة والقدرة.
9- بناء جهاز أمن وطني تكون مسؤوليته الأولى حماية الوطن داخليا وخارجيا. يكون الجهاز كما هو الحال في الجيش والشرطة تعبيرا صادقا عن التنوع الإثني لشعوب وممثلا لمناطق السودان كافة.
10- تصدر السلطة الجديدة قرارا بإلغاء اتفاقية جوبا للسلام (بحيثية تساوي الأقاليم جميعها في الفقر والعدم)، إذ لم يعد لمركز ميزة على طرف أو هامش بعد أن ساوت الحرب بين الجميع ورجعت بالسودان القهقرى سنينا عددا. ويتم مع إلغاء اتفاقية جوبا إلغاء ما يسمى بالمسارات (بحثية الانشاء الجديد).
11- تستمر الفترة الانتقالية لمدة خمس سنوات تنصرف خلالها القوى السياسية إلى مراجعة كل شيءٍ مما صنعت ولم تصنع. وتباشر خلالها التعاطي الجاد المتدبر في عللها المؤسسية والتنظيمية والفكرية وعلل وقضايا السياسة السودانية. يكون واجب الأحزاب والقوى السياسية الأول خلال الفترة الانتقالية الانفتاح على الشعب السوداني في مدنه وقراه وحلاله وبواديه والحديث معه في مس