“تُركنا أنا وأمي الميتة في الصحراء” خلال رحلة هروبنا إلى مصر

 

آلاف السودانيين تعرضوا إلى صنوف مختلفة من الانتهاكات من قبل عصابات تهريب البشر

 القاهرة : محمد محمد عثمان

كشف تحقيق لبي بي سي نيوز عربي، تعرض الكثير من السودانيين، الفارين من الحرب والمتوجهين إلى مصر، إلى أصناف مختلفة من الانتهاكات من قبل عصابات تهريب البشر التي بدأت تنشط في الآونة الأخيرة على الحدود المشتركة بين البلدين.

واستمعنا إلى عدة شهادات من الفارين الذين تعرضوا أو تعرض بعض أقربائهم لخطر الموت والاختطاف والسرقة والابتزاز وحوادث السير المروعة.

وقالوا إنهم اضطروا إلى الدخول للأراضي المصرية بطريقة غير قانونية بعد تشديد السلطات المصرية إجراءات الدخول وذلك بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب في السودان في أبريل  الماضي .

لم يكن من السهل إقناع الواصلين بطريقة غير قانونية إلى مصر بالحديث إلينا، إذ استغرق الأمر أياما وأسابيع لإقناع بعضهم بالحديث.

بعضهم وافق على اللقاء المباشر أو الظهور أمام الكاميرا وبعضهم الآخر اكتفى بسرد قصته عبر الهاتف، وقد عمدنا تغيير أسماء الشهود الحقيقية واستخدمنا أسماء مستعارة.

تشديد السلطات المصرية لإجراءات الدخول إلى مصر دفع كثيرين للدخول إليها بشكل غير قانوني

 

تشديد السلطات المصرية لإجراءات الدخول إلى مصر دفع كثيرين للدخول إليها بشكل غير قانوني

“تُركنا أنا وأمي الميتة في الصحراء”

كل من تحدثنا إليهم يقولون إن الهروب من أهوال الحرب وتشديد السلطات المصرية لإجراءات الدخول هي التي جعلتهم يتخذون قرارا لم يتمنوه، وهو الدخول إلى مصر بطريقة غير شرعية، والتعرض لتجربة السفر في الصحراء ووسط الجبال مع “مهربين قساة”، كما تقول أم سلمى ربة الأسرة.

وصلت أم سلمى مع أسرتها إلى منطقة أبو حمد بالولاية الشمالية، قادمة من مدينة أمدرمان التي تشهد قتالا ضاريا بين الجيش وقوات الدعم السريع.

ولم تكن منطقة أبو حمد وجهتهم الأخيرة، وإنما كانوا يريدون الوصول إلى القاهرة.

اختاروا المنطقة بعد أن علموا أن رحلات التهريب تبدأ من هناك كما قالت لي، وهي تتحدث عبر الهاتف.

بعد مكوثهم لعدة أيام في المدينة تمكنوا من الاتفاق مع أحد المهربين لإيصالهم إلى داخل الحدود المصرية في منطقة أسوان.

وأضافت: “قبل تحركنا على متن السيارة حُشرنا فيها مع توثيقنا بالحبال حتى لا نقع.. تحركت السيارة من المنطقة وتوغلت في الصحراء الموحشة. سرنا طوال الليل وتوقفنا بعد مرور أكثر من ثماني ساعات في منطقة جبلية مقفرة.. طلبوا منا النزول لأننا سنقضي ساعات في هذا المكان ريثما يأتي الصباح”.

ومضت تسرد قصتها، وهي في حالة من الحزن ويأتيني صوتها متقطعا: “في الصباح الباكر تحركنا وكانت السيارة تعبر الطريق بسرعة جنونية وليس بالإمكان التحدث مع السائق لتهدئة السرعة.. وفجأة انحرفت السيارة، ووجدنا أنفسنا على الأرض، وارتطمت أمي المسنة بجسم السيارة ووقعت.. كنت أعتقد أنها فقدت الوعي وحاولت أن أيقظها دون جدوى، أصابتني الصدمة وبت أصرخ بعد أن اكتشفت أنها قد فارقت الحياة”.

 يستحق الانتباه نهاية

بكت بحرقة عند هذه اللحظة. وتابعت وهي تغالب دموعها: “صاحب السيارة قال إنه لن ينتظر! ولن يستطيع أن يقل شخصا ميتا في سيارته! فمضى في طريقه دون أن يرمش له جفن، وتركنا أنا وأمي الميتة في الصحراء! في البداية لم نصدق ما يحدث لنا.. بدا الأمر كأنه مشهد في فيلم سينمائي.

مكثنا لساعات في ذلك المكان قبل أن تظهر سيارة بها سلع مهربة قادمة من مصر في اتجاه إلى السودان.. توقفت. وعندما علم راكبوها بقصتنا أشفقوا علينا وسمحوا لنا بالعودة معهم إلى السودان.

ركبنا السيارة وجلسنا على البضائع ومعنا جثة أمي حتى وصلنا إلى منطقتنا ودفنّاها هناك”.

بعد مكوثهم لأكثر من شهر في أبو حمد قرروا المحاولة مرة أخرى، ولكن عبر الطرق الرسمية “ليست لدينا خيارات كثيرة. لا يمكننا العودة إلى أمدرمان حيث القتال لا يزال مستمرا.. ذهبنا إلى بورتسودان وقدمنا للتأشيرة، ولكنها لم تمنح لنا رغم مكوثنا لنحو شهرين”.

وأوضحت أنهم لم يستسلموا، وقرروا المحاولة مرة ثالثة عبر الطريق الصحراوي وعن طريق التهريب أيضا ” انتهت كل مواردنا فقررنا السفر عبر التهريب مرة أخرى رغم تجربتنا القاسية التي مررنا بها.. أعدنا الكرة، ولكننا نجحنا هذه المرة وتمكنا من عبور الحدود بأمان”.

وتضيف: “الرحلة في المرة الثانية استغرقت أياما معدودة ولم نعاني كثيرا كما في المرة السابقة، ولقد تعلمنا من الدرس جيدا”.

” دفناه وحيداً في الصحراء”

مئات العائلات تنتظر في مدينة وادي حلفا الحدودية لأشهر من أجل الحصول على تأشيرة لدخول مصر

 في مدينة وادي حلفا الحدودية، حيث يقع أحد المعبرين الحدوديين مع مصر، تمكث مئات العائلات في المدارس والساحات العامة لأشهر انتظارا لتأشيرة الدخول.

بعض هذه العائلات يأست من الحصول على التأشيرة، وقررت سلك طريق الصحراء. ومن بينها أسرة إبراهيم التي تمكنت من الوصول بسلام، لكن بعد مرورها بتجربة مريرة كما قال لي عندما التقيت به في أحد أحياء القاهرة.

قصة إبراهيم كانت مأساوية عند الاستماع لتفاصيلها. فهو أيضا تحرك وعائلته من مدينة حلفا عبر سيارة مهرب وتوجهوا إلى منطقة قبقبة التي تشتهر بتعدين الذهب وينشط فيها المهربون. السيارة فيها أسرته المكونة من خمسة اشخاص وأسرتين أخريتين وعدد من الأصدقاء وشاب عشريني وحيد.

ويضيف أن الأمور كانت تسير على نحو جيد قبل أن تتعرض سيارتهم لحادث سير. وقال: “تعرضت السيارة لحادث سير بعد اصطدامها بإحدى الصخور ما أدى إلى سقوط ذلك الشاب ومات في الحال بعد تعرضه لكسر في الرقبة. لم نكن ندري عنه شيئا. بكت النساء والأطفال. الرجال أصابهم الذعر والوجوم. خفنا أن نتعرض لنفس المصير”.

وذكر إبراهيم – الذي يعمل موظفا حكوميا – أنه وبعد مرور فترة طويلة على الحادثة وهم في حالة وجوم وصدمة والجثة لا تزال بجوارهم، اقترح عليهم صاحب السيارة أن يتم دفنه في الصحراء، فصرخنا فيه وقلت له بغضب “أليس بشرا! كيف تريدنا أن ندفنه في الصحراء؟”، فقال إنه لن يتحمل مسؤولية جثة في سيارته، ومن أراد ان يتحمل المسؤولية فليبق مع الجثة في الطريق. وجمنا. وقتلنا الصمت.. لم نجد بدا من تنفيذ مقترحه وقمنا بدفنه في الصحراء ونحن نغالب الدموع.. صعدنا إلى السيارة وتحركنا ونحن ننظر إلى القبر الوحيد في الصحراء ولم نكلم بعضنا طوال زمن الرحلة”.

” ماتت ابنتي بسبب الصدمة”

 زادت وتيرة الواصلين إلى مصر عن طريق التهريب بعد هجوم قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة في ديسمبر/كانون الثاني الماضي، وخروج مئات الآلاف منها بحسب شهادات الأشخاص الذين تحدثنا إليهم.

هذه الزيادة دفعت المهربين إلى مضاعفة ثمن الرحلة لثلاث مرات، كما تقول حليمة.

فرت حليمة مع أسرتها من مدينة ود مدني، وقطعت الآلاف من الكيلومترات ومرت بمدن كثيرة مثل سنار والقضارف وكسلا وبورتسودان وعطبرة وصولاً إلى منطقة أبو حمد.

وقالت لي وهي تحدثني من داخل منزلهم بأحد أحياء القاهرة: “مكثنا في المنطقة عدة أيام حتى تمكنا من إيجاد مهرب وافق على تسفيرنا بعد مفاوضات شاقة نسبة لوجود عدد كبير جدا من الفارين من الحرب. وحشرنا أنا وابنتي في سيارة صغيرة برفقة ثلاثة عشر شخصا وقيّدونا بالحبال وطلبوا منا أن نظل هادئين ولا نثير جلبة “.

وأضافت: “بعد مرور ثلاثة أيام وعند وصولنا إلى أحد المناطق الجبلية، تعطلت السيارة – أو تم تعطيلها عمدا- بواسطة السائق والذي تركنا ليبحث عن شخص لتصليح السيارة وقال إنه سيعود مرة أخرى.. ولم تكد تمر لحظات حتى ظهر أربعة أشخاص مسلحين ببنادق وملثمين”.

ومضت تقول: “أطلقوا النار في الهواء وقالوا لنا انزلوا من السيارة بسرعة. ضرب ابنتي على وجهها وانتزع حلقها من أذنها. قلت له لا تضربها. خذ الحلق فقط. لم يتركوا هاتفا إلا وسرقوه، حتى هاتفي الصغير من نوع نوكيا أخذوه، حتى باقي الأسر لم يتركوا لهم أي أموال”.

وفجأة ظهرت سيارة وعلى متنها براميل تستخدم لنقل الوقود. توقفت السيارة وهرب قطاع الطرق.. طلبنا من أصحاب السيارة مساعدتنا في الدخول إلى داخل الحدود في منطقة أسوان فوافقوا.. صعدنا على سطح البراميل وتحركت بنا السيارة وبعد مرور نحو ساعة وصلنا إلى داخل الحدود المصرية”.

وذكرت حليمة التي تبلغ من العمر نحو 60 عاما أن ابنتها التي تعمل كطبيبة نفسية أصيبت بالصدمة جراء ما حدث ولا سيما أن أفراد العصابة أطلقوا النار على مقربة منها، وقالت إن ابنتها ظلت صامتة طوال الرحلة “ساءت حالتها في الطريق من أسوان إلى القاهرة.. ذهبت بها إلى أحد المستشفيات حتى قبل أن نصل إلى مكان أهلي”.

وأشارت إلى أنها وأثناء التفكير في مستقبل بنتها، وهي تنتظرها خارج غرفة العناية المكثفة علمت أنها توفيت. سكتت لبرهة، قبل أن تنخرط في نوبة بكاء وهي تقول إنها لم تصدق أن ابنتها ماتت.

“كانت طبيعية جدا. عندما أخبرت معارفي أنها توفيت شعروا بالفزع. لقد أصيبت بالرعب فقط، لم تصب بأي شيء آخر. لا أعلم هل أنا في السماء أم في الأرض! التفتُّ حولي ولم أجد أحدا أعرفه. ولم أكن على اتصال بأي شخص.. الحمد لله”.

” طريق الموت الصحراوي”

 خلال الآونة الأخيرة، بدأت عصابات تهريب البشر تنشط على طول الحدود السودانية المصرية المشتركة والتي تقدر بأكثر من 1,200 كيلومتر، في ظل وصول المزيد من الفارين من الحرب في السودان.

ويعمل معظم المهربين في مناطق تعدين الذهب سواء في شمال السودان أو جنوب مصر ويستخدمون سيارات نصف النقل المكشوفة لنقل طالبي الخدمة.

 

تبدأ الرحلات من مناطق تعدين الذهب أو غيرها من المحطات في شمال السودان وتمر عبر الصحاري الشاسعة والمناطق الجبلية، ويقودون بسرعة جنونية مع تقييد المسافرين بالحبال حتى لا يسقطوا من السيارة.

تكلف الرحلة نحو 300 دولار للشخص الواحد، وهي تزيد أو تقل تبعا لطول المسافة وعدد الأفراد من الأسرة الواحدة، كما يقول أحد المسافرين.

بحسب إفادات شهود عيان، فإن معظم المهربين هم من الذين يعملون في تعدين الذهب وهم يعملون تحت مرأى ومسمع الجهات الأمنية في السودان، ولا سيما في منطقة أبو حمد، إذ يشير بعضهم إلى أن الجهات الأمنية مثل الشرطة والجيش أحيانا تتدخل لحل المشكلات التي تنتج بين المهربين والعائلات.

كما أن العدد الأكبر من السيارات تتحرك من منطقة قبقبة بشكل واضح ومعروف وهنالك محطات للانتظار والتحرك حتى أطلق بعضهم على هذا المكان اسم “مطار قبقبة” من باب السخرية.

وتقول السلطات السودانية إنها ظلت تحذر السودانيين من سلك الطريق الصحراوي وغير القانوني لأن من شأن ذلك تعريضهم لخطر الوفاة من كثرة حوادث المرور وغيرها من عمليات الخطف والابتزاز.

وقال القنصل السوداني في أسوان السفير عبد القادر عبد الله لبي بي سي إن دخول مصر بطريقة غير شرعية يعرض الشخص لمشكلات قانونية مع السلطات المصرية، مضيفاً: “نقوم حاليا بحملات توعية في أوساط الجالية السودانية والقطاعات المختلفة عن أخطار الدخول عن طريق التهريب”.

وأضاف أنهم لا يزالوا يبذلون الجهود ويتواصلوا مع السلطات المصرية لزيادة عدد التأشيرات وتقليل الفترة الزمنية وتسهيل دخول السودانيين.

** تواصلت بي بي سي نيوز عربي مع السلطات المصرية أيضا للحصول على تعليق بشأن ما تفعله لوقف رحلات التهريب من السودان، ولكن لم نتلق ردا حتى كتابة ونشر هذا التقرير.

” رحلة أخرى من المعاناة “

 لم تنقطع معاناة السودانيين الواصلين إلى مصر بعد أن صاروا بمأمن عن أصوات المدافع والبنادق. فكثير ممن تحدثنا إليهم اشتكوا صعوبات تواجههم في تسجيل اسمائهم في مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مصر.

في مقر المفوضية الذي يقع في منطقة 6 أكتوبر، يمكنك مشاهدة الآلاف من الأشخاص، وجلهم من النساء والأطفال، وهم يتراصون في صفوف مزدحمة من أجل تسجيل اسمائهم.. بعضهم يأتي ليلا وفي شتاء القاهرة القارس حتى يتمكن من حجز مكانه في الصفوف الأمامية.

وتقول حليمة إنها تمكنت من الوصول إلى شباك التسجيل، ولكنها مُنحت موعدا واحدا فقط للتسجيل وهو بعد أربعة أشهر. شهادات التسجيل مهمة للغاية للواصلين، خاصة للقادمين بطريقة غير قانونية، لأنها توفر لهم الحماية وتجعل وضعهم شرعيا، كما تقول.

وحتى الذين تمكنوا من تسجيل اسمائهم والحصول على ” الكرت الأصفر” يشتكون من عدم وجود أي نوع من المساعدات، كما تؤكد لي ابتسام، التي وصلت إلى القاهرة برفقة أسرتها المكونة من 17 شخصا منذ يونيو  الماضي، ولكنها لم تتلق المساعدة.

وتقول إنها لا تدري كيف تتصرف مع متطلبات الحياة اليومية وزوجها متوفي عنها: “لم تقدم لنا المفوضية الخدمات التي كنا نأملها.. لا توجد جهة تدفع عنا إيجار الشقة.. لا توجد جهة تدفع لنا المصروفات الدراسية للتلاميذ. لا توجد جهة توفر لنا الخدمات الأساسية”.

 وأدت الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل/ نيسان الماضي إلى تشريد 10 مليون شخص من مناطقهم. ووصل نصف مليون شخص إلى داخل الحدود المصرية، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة.

وقالت مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مصر إنها”مدركة تماما” للمعاناة التي يمر بها الفارون من الحرب من السودان.

وذكرت كرستين بشاي، المتحدثة باسم المفوضية لبي بي سي أنهم يدركون أن حجم الاحتياجات كبير جدا و”أنهم يعملون بجد من أجل توفير الحماية وتقديم المساعدات للواصلين”.

وأضافت أن المفوضية تواجه مشكلة في التمويل، ومع ذلك نبذل قصارى جهدنا. طبعا نحن ندرك أن الاحتياجات كبيرة جدا، أكبر من قدرتنا على تغطيتها، هناك أولويات. من هو الأكثر احتياجا؟ أي شخص تعرض لمشكلة خلال الرحلة نحاول أن نقدم له الدعم المنقذ للحياة. وبالتالي هناك عيادات نقدم فيها الخدمة الطبية على الحدود من خلال الهلال المصري” .

تبدو الحياة قاسية وضبابية بالنسبة للكثير من طالبي اللجوء السودانيين في مصر وهم يواجهون صعوبات في التأقلم في ظل التحديات الاقتصادية، وعدم اتضاح الرؤية بشأن مستقبل أبنائهم الدراسي، كما أن إمكانية العودة مرة أخرى للديار تبدو مستحيلة لكثيرين منهم في ظل استمرار القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع للشهر العاشر على التوالي.

 المصدر: بي بي سي

 

موقع المنبر
Logo