الاتصالات.. حرب أخرى في السودان

 

الخرطوم: المنبر 24

في 6 فبراير  الماضي وجد السودانيون أنفسهم في عزلة عن العالم بسبب انقطاع الاتصالات عن بلدهم. وسرعان ما تبادلت أطراف الصراع في السودان الاتهامات بالمسؤولية عن ذلك الانقطاع.

و بادرت وزارة الخارجية السودانية بإصدار بيان اتهمت فيه مليشيا الدعم السريع بقطع شبكة الاتصالات واعتبار ذلك جريمة تضاف إلى سلسلة جرائم أخرى، في حين نفت قوات الدعم السريع أي مسؤولية لها في تغييب شبكة الاتصالات رامية الكرة في ملعب الجيش السوداني.

بعد نحو أسبوع بدأت الأزمة تأخذ طريقها للانفراج بعودة جزئية لواحدة من 3 شركات كبيرة تنشط في مجال الاتصالات فيما زالت الأخريات في حالة غياب.

للمعاناة أكثر من وجه!

معروف عباس تاجر تجزئة بمدينة عطبرة ملامح القلق تبدو على محياه. فمنذ نحو 3 أسابيع لم يتمكن من الاتصال بأسرته الكبيرة والمقيمة في غربي ولاية الجزيرة والتي تشهد قتالا ضاريا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وذلك بسبب انقطاع خدمة الاتصالات عن ولاية الجزيرة وعدد من الولايات الأخرى في السودان، ويكتفي عباس بالتحديق في هاتفه في انتظار الفرج.

سامية المقيمة في المملكة العربية السعودية عرفت بموت والدها بعد نحو يومين وبعد أن تمكن أحد أقاربها من الاتصال عبر هاتف دولي مرتبط مباشرة بالأقمار الصناعية.

وفي دارفور نشطت خدمة إرسال الخطابات دون طوابع بريدية ووفقا للصحفي محمد صالح تريكو والذي قال للجزيرة نت إن مئات من المواطنين في مدينة الضعين بشرق دارفور باتوا يرسلون ويستقبلون خطابات عبر الباصات والشاحنات التي تربط أجزاء دارفور وذلك بسبب انقطاع شبكة الاتصالات عن أجزاء واسعة من دارفور ومنذ الأيام الأولى للحرب.

في 19 فبراير الماضي، أعلنت لجنة الطوارئ في مدينة الخرطوم بحري إيقاف تقديم وجبات مجانية كانت تقدمها لأكثر من 30 ألف شخص بالمدينة وذلك لعدم قدرتها على استقطاب تبرعات مالية، والسبب أيضا يكمن في غياب شبكة الاتصالات وتوقف التطبيقات المالية التي تتيح التحويلات المالية، ويعاني نصف السكان في السودان من نقص في الغذاء بسبب اندلاع الحرب في أبريل  من العام الماضي.

كان ذلك الجزء الظاهر من جبل معاناة السودانيين من انقطاع شبكة الإنترنت، ولكن ما خفي أعظم، فالصحفي عبد الماجد عبد الحميد يقول للجزيرة نت “عندما تعود شبكة الاتصالات سيكتشف أهل السودان جميعا الجرائم والفظائع التي ارتكبتها عصابات مليشيا التمرد داخل قرى ولاية الجزيرة”.

ويستطرد عبد الحميد “هنالك قصص مؤلمة وحكايات دامية.. قتل ونهب واغتصاب وتشريد وإهانة للرجال والنساء والأطفال وكبار السن.. ما حدث في قرى الجزيرة كارثة إنسانية تُضاف إلى سجل مليشيا التمرد لم تخرج هذه المآسي للعلن بسبب انقطاع خدمات الاتصالات”.

 

أصل الحكاية.. روايات متعددة

طبقا لـ3 مصادر تحدثت للجزيرة نت فإن أزمة قطع الاتصالات بدأت في الثالث من فبراير/شباط الجاري، حيث جاء وفد من قوات الدعم السريع يشمل مختصين في الاتصالات لمقر شركة زين إحدى 3 شركات تعمل في خدمة الاتصالات ورابعتهم متخصصة في خدمة الإنترنت الأرضي حيث استفسر الوفد عن عدم وصول خدمة الشركة لدارفور منذ بداية الحرب، وإن كان ذلك بسبب توجيهات من الجيش السوداني.

وقد رد العاملون في مركز الشركة بأن انقطاع الخدمات كان بسبب مشاكل فنية في شبكة الألياف الضوئية التي تمتلكها شركة سوداتل، بجانب مشكلات أخرى حيث تحتاج مراكز تقوية الشبكة في أنحاء دارفور للصيانة، ولكن ولصعوبة وصول طواقم الصيانة إلى تلك البقاع لم تتمكن الشركة من إيصال الخدمة لدارفور.

 

وقد انتهى الجدل بإجبار قوات الدعم السريع شركة زين على قطع الخدمة عن ولاية نهر النيل بجانب مدينة بورتسودان لاعتقادهم أن أعضاء الحكومة السودانية وقادة الجيش السوداني يتمركزون في هذه المناطق.

الوفد ذاته، ذهب لشركة سوداني للاتصالات يحمل ذات التساؤلات، لكن المفاوضات لم تكن سلسة باعتبار أن الحكومة مساهم رئيسي في هذه الشركة، وانتهى الأمر بإجبار الشركة على قطع الاتصالات من جميع أنحاء السودان، وذات الإجراء تم فرضه على شركة “إم تي إن” صاحبة الحصة الأقل في السوق السوداني.

وبحسب مصدر مطلع، فإن شركة زين ولإبداء حسن النية شرعت في إجراءات عاجلة لإعادة الخدمة لاثنين من مدن دارفور هما الفاشر عاصمة شمال دارفور والتي ما زالت تحت سيطرة الجيش السوداني، ومدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور الخاضعة لمليشيا الدعم السريع.

ولكن الفرح لم يكتمل

وبعد نحو 48 ساعة لحقت شركة زين برفيقتيها حيث توقفت عن الخدمة ودخل السودان في ظلام تام في دنيا الاتصالات، مصدر رفيع بشركة زين طلب حجب هويته علل الأمر للجزيرة نت بأن شركته رفضت الانصياع لأي ابتزاز أو شروط من قبل قوات الدعم السريع وفضلت الشروع في معالجات جذرية مهما كان الثمن.

وقد استمرت شركة “إم تي إن” في تقديم خدمة محدودة داخل ولاية الخرطوم ولقطاع محدود من مشتركيها، كما استمرت شركة رابعة متخصصة في الإنترنت الأرضي في تقديم خدماتها للمؤسسات الحكومية والمصارف في عدد من المدن الرئيسية بما في ذلك بورتسودان والتي باتت عاصمة بديلة.

الجيش في قفص الاتهام

صار في حكم المؤكد ووفقا لمصادر متطابقة أن قوات الدعم السريع قامت بقطع خدمة الاتصالات عبر سيطرتها على الخرطوم والتي توجد بها المقسمات الرئيسة لشركات الاتصالات وذلك للضغط على الحكومة وقيادة الجيش وإظهارهم بمظهر الضعيف أمام الرأي العام السوداني وأصحاب المصلحة من جانب، ومن الجانب الآخر إجبار شركات الاتصالات على السعي الجاد لإعادة الخدمات لإقليم دارفور والذي تسيطر على معظم أجزائه قوات الدعم السريع.

في جانبه، يقول حسبو أبو الفقراء المسؤول في إعلام  مليشيا الدعم السريع للجزيرة نت إن ما يصفها بحكومة بورتسودان هي من قطعت الاتصالات بداية من إقليم دارفور وأجزاء واسعة من كردفان كعقاب جماعي لكل المواطنين هناك.

ويضيف أبو الفقراء أن القطع الكامل للاتصالات جاء بحجة التكتم على تحركات الجيش نحو أم درمان وغيرها، موضحا “لا علاقة لنا بهذه الجريمة وليست في مصلحتنا”.

وليس وحده أبو الفقراء من يتهم الجيش السوداني بأنه المسؤول عن قطع الخدمة في بعض أجزاء كردفان وكل إقليم دارفور، فقد صرح ناظم سراج رئيس منظمة “حاضرين” الطوعية عبر منصة إكس أنهم توافرت لديهم أدلة بأن الجيش السوداني مسؤول عن انقطاع الخدمة في إقليم دارفور.

وهو أمر أكده للجزيرة نت خبير في قطاع الاتصالات، فضل حجب اسمه، أن الجيش لاحظ استخدام الدعم السريع لقطاع الاتصالات خاصة في جوانب الإنترنت لتضخيم الانتصارات الصغيرة وحشد المزيد من الجنود المتأثرين بالدعاية الواسعة للدعم السريع.

 الجيش يرد

في المقابل، هنالك من له رؤية أخرى تبرئ ساحة الجيش من هذه المسؤولية فقد عبر طارق زين العابدين المدير العام السابق لشركة سوداني للجزيرة نت عن وجهة نظره قائلا لا مصلحة للجيش السوداني في قطع الخدمة.

ويوضح زين العابدين أن الجيش الآن يعتبر السلطة السيادية الحاكمة وبالتالي مسؤول عن كل المواطنين وانقطاع خدمات قطاع حيوي مرتبط بحياة الناس يعرضه لضغط شعبي مكثف وبالتالي لا يمكن أن يعض على بنانه بنفسه.

وفي الاتجاه ذاته، قال مصدر إعلامي للجزيرة نت إن انقطاع خدمة الاتصالات يحرم الجيش من خدمة المصادر الميدانية وهى خدمة مهمة في إدارة الحروب خاصة في الأماكن البعيدة والنائية.

الجيش السوداني من جانبه، رد على الاتهام بشكل عملي حيث قام اللواء معتصم الحاج نائب مدير منظومة الصناعات الدفاعية بتسليم السلطات المحلية بمحلية كرري شمالي أم درمان أجهزة اتصال مرتبطة بالأقمار الصناعية من فئة (ستارلينك) لتقديم خدمات الإنترنت مجانا للجمهور في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش.

أخبار سعيدة.. ولكن

انقطاع شبكة الاتصالات عن أجزاء واسعة من السودان بدأ بشكل جزئي من 3 فبراير الماضي واكتمل في السادس من الشهر ذاته.

ثم بدأ يتكسر بعد أن تمكنت شركة سوداني منذ 13 فبراير من إعادة خدماتها لمشتركيها في عدد من الولايات مثل الولايات الشرقية وولاية الشمالية ونهر النيل.

ووصلت خدمات الاتصال اليوم لولايات النيل الأبيض وسنار وبعضا من شمال كردفان، فيما لا يزال كل إقليم دارفور وولايات الجزيرة والخرطوم وأجزاء واسعة من كردفان خارجة التغطية.

الخروج من الوحل

وبحسب مصدر مطلع في شركة سوداني، فإن مجلس الإدارة وافق على توصية من مدير الشركة بالشروع في استيراد مقسم جديد للعمل في مدينة بورتسودان لتفادي وجود المقسمات الرئيسية في مدينة الخرطوم.

وأوضح أن تنفيذ هذه الخطوات بدأ في شهر سبتمبر الماضي بعد مضي نحو 5 أشهر على الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

وبحسب المصدر فإن تكلفة المشروع الجديد تجاوزت الـ50 مليون دولار ومكّنت الشركة من إعادة السيطرة على غرفة التحكم من مدينة بورتسودان.

استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان

في الجانب الآخر، وبحسب ما ذكره مصدر رفيع في شركة زين للجزيرة نت فإن الشركة بدأت معالجات جذرية تمكنها من العودة في القريب وبقوة رغم كيد المتآمرين، وفقا لتعبيره.

مصدر مطلع في قطاع الاتصالات قال للجزيرة نت إن شركة زين استوردت مقسما جديدا يمكنها من مزاولة العمل من مدينة بورتسودان وإن عمل الفنيين في الشركة يجري على قدم وساق ويمكن في أي وقت أن تبدأ هذه الشركة في تقديم خدماتها.

وأشار المصدر ذاته إلى أن الشركة تفضل إنجاز كثير من الأمور في سرية وهدوء بسبب وجود أصول ضخمة لها في أنحاء متفرقة من السودان تخشى أن تطالها أيدي الانتقام.

 

هؤلاء يبيعون الهواء؟

انقطاع خدمات الشركات الثلاث والتي تحمل رخصا حكومية تكفل لها تقديم خدمات الاتصالات في السودان فتح المجال لما يمكن وصفه بالسوق السوداء للاتصالات حيث بدأت قطاعات واسعة من المواطنين من استخدام أجهزة الاتصالات المرتبطة بالأقمار الاصطناعية خاصة من فئة (Star Link) والتي تعد زهيدة حيث تبلغ فاتورتها الشهرية نحو 100 دولار ويمكن أن تخدم 20 هاتفا من الهواتف الجوالة في وقت واحد.

الاستثمار في سوق الاتصالات الجديدة لم يعد حكرا على الأفراد فقد تحدثت الجزيرة نت لعدد من الأفراد الذين يشترون خدمة الاتصالات هذه من أفراد يعملون مع قوات الدعم السريع، حيث تبين أن ساعة الاستخدام في مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع تكلف نحو 2.5 دولار.

كذلك قام الجيش السوداني بشراء معدات تمكنه من الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية ومد كثير من المؤسسات الحكومية بهذه الأجهزة كما منح أذونات لمؤسسات خاصة باستيراد الأجهزة ذاتها.

معركة في الطريق

مصدر مطلع بشركة سوداني أبدى للجزيرة نت تخوفه من انتشار أجهزة الاتصالات المتصلة عبر الأقمار الاصطناعية، مؤكدا أن في ذلك مخالفة للرخص الممنوحة لشركات الاتصالات والتي أنفقت أموالا ضخمة في تأسيس شبكات من الألياف الضوئية والأبراج تغطي كل أرجاء السودان.

وأشار المصدر ذاته إلى أن جهاز تنظيم الاتصالات -وهو المسؤول عن تنظيم عمل شركات الاتصالات- كان قد أصدر تعميما يحظر مثل هذه الأجهزة.

لكن مدير شركة سوداني السابق طارق زين العابدين لا يرى في الحلول الأمنية حلا ناجعا في منع الاستفادة من التقنية التي توفرها الأقمار الاصطناعية والتي تطورت مؤخرا خاصة بعد دخول تقنية الذكاء الصناعي.

ويرى زين العابدين أن الشركات العاملة يجب أن تكون جزءا من صفقات الاستفادة من هذه التقنية بدلا من محاربتها.

هل ستنتهي الأزمة عبر بورتسودان؟

رغم أن شركات الاتصالات شرعت في معالجات تجعلها تعيد سيطرتها على أجهزة التشغيل فإن هنالك من يقول شيئا آخر.

ووفقا لطارق زين العابدين فإن هذه المعالجات الآنية ستتخللها بعض الثقوب من حيث جودة الخدمة وشمولها.

ويشير زين العابدين إلى أن سيطرة الدعم السريع على مركز البيانات بالخرطوم والذي يمثل خزانة المعلومات للمؤسسات الحكومية والخاصة، من سجل مدني ومصارف مالية وجامعات وشركات خاصة، يمثل مخاطر جمة رغم جهود المختصين في إنشاء نسخ احتياطية من البيانات وتخزينها في أماكن أخرى آمنة.

مصدر مطلع في شركة سوداني قال للجزيرة نت، إنه رغم الجهود المضنية التي يقومون بها وسعيهم لإيصال كل الخدمات لكل السودان، فإنهم لن يتمكنوا من ذلك في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع إلا بموافقة وتعاون تلك القوات والتي تمثل سلطة الأمر الواقع، على حد تعبيره.

المصدر : الجزيرة

موقع المنبر
Logo