” فيل الصين وظلًه معا”.. بقلم.. قصي همرور

مؤخرا، في كل مرة ينذهل الناس باختراق تكنولوجي-علمي قادم من الصين، يتم التعامل إجمالا مع ذلك الاختراق كمفاجأة غير محسوبة، ومن جهة غير متوقعة. آخر تلك الاختراقات ما جرى بخصوص اكتساح ‘ديبسيك’، منصة التعلم الآلي/الذكاء الاصطناعي الصينية الأصل، لخضم السباق المحموم الحالي بين المنصات في المجال، والتي تعود أصول مجملها للولايات المتحدة. ونظرا لأننا تعوّدنا إجمالا على استقاء أخبار التطورات التكنو-علمية من مصادر الأخبار الغربية (الامريكية والأوروبية) فإننا نقاشاتنا في جملتها تكون صدى لما تعكسه تلك المصادر، وتلك المصادر تتعامل مع اختراقات الصين في كل مرة كمفاجأة، أي هكذا تقوم بنشر التقارير عنها على أي حال.

كذلك، في الفترة الأخيرة، تتوالى أخبار اختراقات الصين التكنو-علمية في شتى المجالات المتعلقة. مثلا، مؤخرا تمكنت محطة الفضاء الصينية من إنتاج الأكسجين ووقود الصواريخ في الفضاء، الأمر الذي يُعدّ اختراقا كبيرا في مسيرة استكشاف الفضاء، باعتبار أن إمكانية إنتاج كهذه تسمح بتمديد فترات السفر في الفضاء بصورة كبيرة. والجدير بالذكر أن الصين هي الدولة الوحيدة في العالم حاليا التي تملك محطة الفضاء الخاصة بها، فجميع باقي الدول تتشارك في محطة الفضاء الدولية؛ أي أن هنالك فقط محطتي فضاء مشتغلتين حاليا بالنسبة لكوكب الأرض، إحداها للصين، والسبب في ذلك أن طلب انضمام الصين لمحطة الفضاء الدولية، قبل سنوات، قد تم رفضه بواسطة المحطة (التي يسيطر عليها الامريكان كما هو متوقع) فما كان أمام الصين سوى خيار إنشاء محطة فضاء خاصة بهم.

كذلك، في الفترة الأخيرة، حققت الصين رقما قياسيا عالميا جديدا في إبقاء مفاعل الدمج النووي (nuclear fusion) مشتغلا في درجة حرارة أعلى من حرارة الشمس لزمن أطول من أي تجربة مفاعل دمج نووي آخر في العالم. مشروع الصين يسمى بالشمس الاصطناعية، وقضية الدمج النووي تُعتبر حاليا موضع آمال الكوكب بخصوص إمكانية الحصول على مصدر طاقة نظيف ويكاد يكون غير نهائي بمعاييرنا الآن (إذ أن الدمج النووي ليس كالانشطار النووي الذي يترك مخلفات نووية خطرة).

أيضا، مؤخرا، تقدمت مجموعة من الجامعات الصينية لتحوز على المراكز الأولى والمتقدمة عالميا في عدد من المجالات الهندسية. على سبيل المثال، إذا أردت أن تحصل على أفضل شهادة هندسة كيميائية في التصنيف العالمي اليوم، ربما عليك أن تغيّر حساباتك من التوجه صوب أوروبا الغربية أو أمريكا الشمالية وتعكس نظرك ناحية الشرق الأقصى. والأخطر من ذلك أن تصنيف الجامعات الصينية عالميا متصاعد سنويا. وكل ذلك قائم على ظهر استثمار وطني صيني طويل الأمد في البحوث والتطوير والتعليم في مجالات ستيم (STEM) إجمالا، والتكنولوجيا الحديثة جدا بالذات، والبنى التحتية واللوجستيات الكبرى الداعمة لها. على الأقل خلال السنوات العشر الماضية كانت نسب براءات الاختراع والنشرات العلمية الصينية في مجالات تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة (مثل: الذكاء الاصطناعي والروبوتكس، وانترنت الأشياء، ومصادر الطاقة الجديدة، والبيوتكنولوجيا المتقدمة، والتكنولوجيا المصرفية الحديثة، إلخ) أكبر من أي دولة أخرى في العالم، وكذلك فنسبة صرف الصين على البحوث من جملة الناتج المحلي الإجمالي من أعلى نسب الصرف في العالم، وتقريبا ثاني أعلى نسبة صرف في العالم باعتبار حجم الناتج الإجمالي المحلي للصين (يمكن مراجعة تقارير اليونسكو للعلوم التي تغطي السنوات منذ ٢٠١٥ وقبلها بقليل). كل ذلك بجانب انتشار المنتجات الصينية التكنولوجية الأخرى المتنوعة في العالم الآن، وبمستويات جودة تجاوزت التنميطات القديمة حول المنتجات الصينية بكثير وتجاوزت حتى معايير بعض المنتجات الأوروبية والامريكية.

فالصين إذن لا تصنع في اختراقات مفاجئة، هنا وهناك، بل هي حاليا تتقدم جبهات التكنولوجيا والعلوم ولوجستياتها في الكوكب. على أقل تقدير، الصين حاليا هي فعليا القوة العالمية الثانية في هذه المجالات، وراء الولايات المتحدة مباشرة. ذلك على أقل تقدير، ثم هي تقترب من المركز الأول إجمالا بقوة وبسرعة مربكة لصاحب المركز الأول. وكل هذا لم يحصل فجأة أو لتوافق مصادفات متباعدة، بل وفق تخطيط استراتيجي وتنفيذ وجهد جبار يقوم به الصينيون منذ ثلاثة عقود على أقل تقدير؛ الأمر الذي يفسّر – مع غيره – لماذا المؤسسات الغربية، السياسية والإعلامية والعسكرية، تتحدث عن الصين حاليا بخليط غريب من محاولات التحجيم لها ومحاولات التخويف منها.

والنموذج الاقتصادي السياسي الصيني كذلك ليس شيئا مألوفا، فبينما يمكن أن يطمئن بعضنا أنفسهم بأن النموذج الرأسمالي المألوف ما زال هو السائد حتى لو جاء من الصين، بدليل أن شركة ‘ديبسيك’ إنما هي عبارة عن شركة استثمارية خاصة بنموذج رأسمالي مألوف، إلا أن الواقع أن الصينيين عندهم سياسة مفاقمة الشركات التكنولوجية الخاصة ذات الأصول العامة أو المدعومة من القطاع العام (والقطاع العام الصيني نفسه مقسّم إلى مستويات، من المستوى المركزي والمستوى الإقليمي، وبينهم تداخلات وحتى منافسات محكومة القواعد). يضاف لذلك أن منظومة البحوث والابتكار الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتكس متقدمة منذ سنوات، فالمسألة إذن نتيجة تراكمية لمنظومة ابتكار وبحوث وطنية، صينية، لا تشبه نظيرتها الغربية/الامريكية خصوصا في شكل الاقتصاد السياسي الداعم لها. وبينما النموذج الصيني المعاصر ليس اشتراكيا قحا، بالتأكيد، لكنه بالتأكيد ليس رأسماليا قحا أو وفق النسخ الاوروبية الكولونيالية المروّجة للراسمالية. (وفي ذلك هناك كتابات توضح هذه المسألة، فطريقة خروج فائض الإنتاج وطريقة توزيع فائض القيمة في الصين ليستا كما هو الحال في النماذج الرأسمالية المألوفة عندنا، كما أن نموذج الصين التوسعي العالمي لا يشبه حتى الآن النموذج الامبريالي والنيوكولونيالي الذي عوّدتنا عليه أوروبا أومريكا). فنحن أمام ظاهرة يصعب تصنيفها وفق نموذج كلاسيكي واحد، كما قال الاقتصادي التنموي، الكوري، المهم، ها-جون شانق.

ورغم صحة أنه حتى في النماذج الرأسمالية المألوفة لنا نعرف أن الهاتف الذكي، مثلا، لم تخترعه شركة آبل لوحدها من بداياته وإنما قامت باستعارة ودمج تراكمات متعددة من البحوث والتطوير التكنو-علمية الممولة بواسطة المنظومة الامريكية الكبيرة (وأكبر مساهم فيها القطاع العام الأمريكي) ومنها أبحاث تحت رعاية البنتاغون شخصيا. لكن النموذج الصيني أكثر تضمينا وتنسيقا من ذلك على مستوى القطاع العام.

فالمتابعون لهذه التطورات عموما، والمُخبَرون بها من مصادر أقوى من الآلات الإعلامية الغربية المعتادة، لا يتعاملون مع الاختراقات التكنولوجية التي تظهر للجماهير الغفيرة، مثل ‘ديبسيك’ كاختراقات مفاجئة ويمكن تفسيرها كمسائل جانبية وبها بعض الصدف، أو كتمدد للنموذج الرأسمالي المألوف، إنما يتعاملون معها كجزء من استراتيجية صينية عامة حول تحقيق واستمرارية الصدارة العالمية في مجالات متعددة تتعلق بطبيعة التفوق التكنولوجي والاقتصادي (وربما العسكري) عالميا، ومنها مجالات الثورة الصناعية الرابعة.

فأقل ما ينبغي منّا، حاليا، هو الانتباه للصين والتعامل مع ما يجري بجدية وباعتباره تحولات كبيرة عالميا تجري أمام أعيننا، وتؤثر وستؤثر فينا بالتأكيد، أيّا كانت المسارات المستقبلية الممكنة الظهور من هذه التحولات. هذه الظاهرة، التي هي أهم ظاهرة اقتصادية-تكنولوجية عالمية في هذه الألفية، حتى الآن، بإجماع المطلعين، أكبر من أي فيل وأي ظلّ يمكن تجاهله أو طعنه…. وللحديث شجون.
——–

[الصورة أدناه مقتطفة من الملخص التنفيذي لتقرير اليونسكو للعلوم 2021، وتعطي تصورا جيدا يراكم تفاصيل متعددة. وننصح بالاطلاع على الملخص التنفيذي بصورة عامة، وهو في حوالي 50 صفحة – بينما التقرير نفسه يفوق 900 صفحة. في الوصلة المرفقة أدناه الترجمة العربية للملخص التنفيذي]
https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000377250_ara

موقع المنبر
Logo