محمد ناجي الأصم يكتب :”وسائل تهزم الأهداف … المراجعة الدقيقة ضرورة لا خيار”

عبر عدد من المقالات اكتب عن الحرب وأسبابها ومآلاتها وكيف يمكن أن تلعب القوى المدنية السودانية أدوارا أفضل في سبيل إنهاءها.
———————————————————————-
يواصل عدد من الشخصيات والتنظيمات المنتمية إلى تحالف “تقدم” نقاشاتهم بهدف تشكيل حكومة في مناطق سيطرة ملي شيا الدعم السريع. ووفقًا للأنباء المتداولة، تُجرى هذه النقاشات بصورة مباشرة مع قيادة الدعم الس.. ريع، حيث يسعى منسوبو “تقدم” من خلالها إلى سحب الشرعية عن حكومة الأمر الواقع التي تقودها القوات المسلحة في بورتسودان. تتواصل هذه النقاشات في ظل تأخر وعدم قيام التحالف باتخاذ الخطوات التنظيمية والمؤسسي الواضحة ضد الجهات والأفراد الذين يُتوقع أن يعلنوا قريبًا عن حكومة تابعة للدعم السريع، وهو إعلان من شأنه، بلا شك، أن يؤدي إلى انقسام داخل التحالف.

لقد اختار هؤلاء أن يكونوا جزءًا من حكومة ستكون خاضعة تمامًا لسلطة وسلاح ومال الدعم السريع وداعميه، وبالتالي سيصبحون، وبلا مواربة، طرفًا مباشرًا في الحرب. سيكونون طرفًا يحكم شكليًا ويتمتع بمناصب واهية، ولكن دون إرادة مستقلة حقيقية. هذا الخيار المتهور سيؤدي، للأسف، إلى انقسام القوى المدنية والسياسية السودانية بشكل أكثر وضوحًا وحدةً من السابق، كما سيزيد من تعقيد فرص إنهاء الحرب عبر الحلول التفاوضية في المستقبل القريب، مما يرجّح تحول النزاع إلى حالة من الجمود، تتواجد بها سلطتان سياسيتان متوازيتان، مع مناطق سيطرة محددة، ومناطق تماس، واشتباكات متقطعة بين الحين والآخر. نموذج سيشبه إلى حد كبير الحالات في ليبيا واليمن، ولكنه، في تقديري، سيكون أكثر خطورة وتعقيدًا، لا سيما مع التصاعد الرهيب للنزعات الإثنية والقبلية، وخطابات الكراهية الصادرة عن طرفي الحرب وأدواتهم الإعلامية.

هذا التوجه المُعقِّد للحرب، والانقسام الذي سيصيب “تقدم”، يجب أن يكونا كافيين لتوضيح إخفاق التحالف. فالتحالف، الذي نشأ في الأصل كمحاولة من القوى المدنية للمساهمة في إيقاف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي في السودان، يساهم اليوم جزءٌ ليس بالقليل من مكوناته وأفراده، بصورة مباشرة، في تعقيد إمكانية الحل التفاوضي للحرب. كما أنه يتحالف بشكل مباشر مع أحد أطرافها.

منذ تشكّله، كان التصوّر أن يكون تحالف “تقدم” جسمًا سياسيًا قادرًا على حشد الرأي العام ضد الحرب، شرعيتها وسردياتها، مستقلًا عن أطرافها، مستفيدًا من دعم المجتمع المدني السوداني ومقويًا له، وهو الذي كان من المتوقع أن تُضعف الحرب صوته وقدرته على التأثير.

غير أن هذه المحاولات لم ترتقِ إلى مستوى التوقعات، فقد استمرت قدرة التحالف على تحقيق ذلك في التراجع باستمرار، تبعًا لسلسلة من القرارات المتخبطة، التكتيكية، غير الاستراتيجية، مثل هذه الدعوات، وقبلها التوقيع الأحادي مع أحد أطراف الحرب، مما أفقد التحالف القدرة على التواصل بفعالية مع القوات المسلحة، كما أفقده القدرة على توحيد جهود المجتمع المدني السوداني خلف الهدف الواحد والواضح والمتمثل في تشكيل أكبر كتلة رافضة للحرب، قادرة على نزع شرعية الحرب عن أطرافها، وقادرة على هزيمة سردياتها المختلفة على مستوى الرأي العام.

ولكن الأخطر من عدم قدرة “تقدم” على تحقيق كل ذلك، وما يزال، هو أنّه ساهم، عبر هذا المزيج من الأخطاء وغيرها، في إضعاف المجتمع المدني السوداني نفسه. وإن كان هذه الضعف ليس مسؤولية تقدم وحده، إلا أن ضعف التحالف في إثبات موقفه المستقل عن طرفي الحرب، وعدم الدفاع بقوة عن تلك الاستقلالية، فتح المجال واسعًا أمام مكونات النظام البائد لمهاجمة “تقدم” وكافة قوى المجتمع المدني السودانية التي ساهمت في إسقاط نظام المؤتمر الوطني. ونتيجة لذلك، وجدت التنظيمات والكيانات المدنية نفسها أمام تعبئة ضخمة تخطّت “تقدم” لتصل إلى جميع مكونات المجتمع المدني. كما أن استمرار وتكرار الأخطاء أصبح يزيد، باستمرار، من حالة التشظي والانقسام والتراجع التي يعاني منها المجتمع السوداني.

كان من أهم مثالب تحالف “تقدم” منذ بداياته، والتي كان من الواضح أنها ستحول بين التحالف وبين قدرته على صناعة موقف حقيقي ومستقل للمجتمع المدني السوداني، قادر على التأثير في أطراف الحرب من أجل إيقافها، هو أن التحالف ضم بين صفوفه وفي هيئاته القيادية مكوناتا وأفرادًا لديهم انحياز واضح وفج ومباشر لقوات الدعم السريع ولداعميها الإقليميين.

هذا الأمر أعاق قدرة التحالف على التواصل الجيد مع القوات المسلحة ومع مكونات المجتمع المدني الأخرى، كما حدّ من قدرته على التأثير في الرأي العام. وهي مسألة يبدو أن التحالف اختار تجاهلها والتعامل معها باعتبارها مجرد تعدد وتنوع في الآراء!. واليوم، فإن عددًا كبيرًا من تلك الشخصيات والمكونات (وليس جميعها) هي التي تقود جهود تشكيل وإدارة حكومة الدعم السريع.

تتعدد الدوافع التي تدفع البعض إلى الانحياز، حتى ولو جزئيًا، إلى قوات الدعم السريع في مواجهة القوات المسلحة. من بين هذه الدوافع، الاعتقاد بأنها قوة صديقة للديمقراطية والحكم المدني في السودان، وهو اعتقاد واهٍ لا تسنده أي وقائع من التاريخ القريب أو البعيد. فالدعم السريع، بوصفها ميليشيا أسرية، ظلت تتحرك في سبيل السلطة والمال والمزيد منهما لا غير.الأمر الثاني هو أنها تواجه المؤتمر الوطني وبقاياه، ونتيجة لتراكم الغضب والظلم على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الحكم الاستبدادي الذي شهد ممارسة شتى أنواع الانتهاكات، فقد أدى ذلك للأسف الشديد إلى تعمية العديد من الأفراد والتنظيمات، مما دفعهم لاتخاذ موقف متضامن مع الدعم السريع، متغافلين عن حقيقة أن كليهما، أي الدعم السريع والمؤتمر الوطني وبقاياه، سوء وسوء يتنافسان في من فيهما أكثر شرا وأذية. كما أن من أهم أسباب اندلاع الحرب هو عدم قدرتهما على التعايش عقب انقلاب أكتوبر 2021، مع تناقض أساسي يتمثل في سعيهما المشترك للاستئثار بالسلطة والموارد بصورة كاملة. أما الأمر الثالث والأخير، وهو الأسوأ بينها جميعًا، أن هذا الانحياز أتى كنتيجة لنزعات إثنية وجهوية أخذت في التصاعد منذ بداية الحرب وحتى الآن، االنزعات التي نجحت في التأثير على بعض السياسيين والمدنيين كذلك.

ظل التحالف أيضًا، وباستمرار، يُعرّف الحرب وأسبابها بصورة ناقصة، حيث اقتصر التعريف على دور المؤتمر الوطني وبقايا النظام البائد في التعبئة والحشد للحرب، وهو أمر لا شك فيه؛ فالمؤتمر الوطني ومنسوبوه هم، بكل تأكيد، أكبر المستفيدين من الحرب واستمرارها بصورة مباشرة. ومع ذلك، فإن هذا التوصيف والتعريف يظل ناقصًا، إذ أغفل دور الدعم السريع، الذي قام بعدد من الخطوات التصعيدية قبل اندلاع الحرب وأسهم في إشعالها، بالإضافة إلى وجوده المشوَّه أصلاً، وتمدد نفوذه، ونوايا قائده السلطوية، وفوق كل ذلك المناورات المستمرة لقيادة القوات المسلحة التي سمحت لكل هذه التناقضات بالانفجار.

أيضا، استمر بعض الأعضاء في قيادة التحالف وعدد من الناطقين الرسميين باسمه في التحدث خلال اللقاءات الإعلامية بصورة دفاعية عن الدعم السريع، وأحيانًا عن الإمارات، دون تقديم ردود الفعل المتوقعة من قيادة التحالف من شاكلة تصحيح ونفي تلك التصريحات الإعلامية أو التدقيق والحساسية التي كانت يجب أن تكون مطلوبة في العمل الإعلامي للتحالف، والذي يُفترض أنه يسعى لتعزيز موقف مستقل عن أطراف الحرب وسردياتها. كما أن التعامل مع القوات المسلحة والمؤتمر الوطني وبقاياه كطرف واحد كان أيضًا خطأً كبيرًا، مَكّن المؤتمر الوطني وأدواته من زيادة نفوذهم داخل واقع الحرب في السودان.

والصحيح أن القوات المسلحة تُعد طرفًا مختلفًا عن المؤتمر الوطني، فهي تختلف عنه في أهدافها الاستراتيجية، وأجنداتها السياسية داخليًا وخارجيًا، ومصالحها، وفي تصوراتها لنهاية الحرب وما بعدها وذلك بالطبع لا يعني أنها صحيحة، فقط أنها مختلفة ومتناقضة في كثير من الأحيان مع ما يسعى إليه المؤتمر الوطني ومليشياته وبقاياه. وتختلف القوات المسلحة كذلك عن قياداتها والتمييز بين قيادة القوات المسلحة والقوات المسلحة نفسها أيضا أمر مهم. ومع ذلك، فإن تأثير المؤتمر الوطني عليها يتصاعد أو يتناقص تبعًا لديناميات الواقع المختلفة وتكتيكات قيادة القوات المسلحة دائمة التغير. لذلك، كان من المهم جدًا ومنذ البداية أن ينصب التركيز على تقليل قدرة المؤتمر الوطني وأدواته على تعزيز نفوذهم داخل القوات المسلحة وفي واقع الحرب بشكل عام.

اليوم، ومن جديد وعلى الرغم من عدم تجاوز أزمة المكونات التي تمضي في طريق تشكيل حكومة الدعم السريع بعد، تسعى عدد من المكونات المدنية والحركات المسلحة، بما فيها تحالف “تقدم”، عبر نقاشات واجتماعات موسعة، إلى إيجاد صيغة جديدة للعمل المشترك يمكن أن تؤسس لصوت مستقل وأصيل قادر على المساهمة بفعالية في إيقاف الحرب والمحافظة على الحياة السياسية والمدنية في السودان. ولكن، قبل المضي قدمًا في ذلك، هناك ضرورة قصوى للتمهل والتفكير بتمعن، مع تحديد دقيق للأهداف الاستراتيجية للعمل المشترك.

من الضروري إعادة النظر في المكونات وتقييمها بصورة منهجية، مراجعة الاتفاق حول الأهداف الاستراتيجية، ومراجعة جدوى تمثيل مكونات تفتقر إلى البناء المؤسسي وأدوات الفعل والتأثير. فقد ظل هذا الأمر، على الدوام، يدفع المكونات الفاعلة داخل التحالف إلى زيادة “اللافتات” أو الأجسام والتنظيمات الوهمية التي تتمثل عضويتها في عدد قليل من الأفراد، والدفع بها نحو التمثيل داخل التحالف، في محاولة لزيادة قدرتها على التأثير في توجهات التحالف وقراراته. وهذه الظاهرة تشكل إحدى سلبيات العمل التحالفي في السودان منذ أمد بعيد. إلا أنه، وفي ظل حرب تتداخل فيها العديد من الجهات الإقليمية، يصبح هذا الأمر مدخلًا مهمًا يفتح المجال بمصراعيه أمام التأثيرات الخارجية.

من المهم في هذه المرحلة أن تعود “تقدم” ومكوناتها إلى طاولة المراجعة، وأن تنظر بجدّية إلى حصيلة زمنية تقترب من العامين: هل تم تحقيق أيّ اختراق حقيقي في اتجاه إيقاف الحرب؟ هل نجح التحالف في تعزيز قدرات المجتمع المدني وحشد الرأي العام ضد الحرب؟ أم أنّه، بجميع هذه الأخطاء، يساهم في استمرار الحرب وتعقيدها، وتشتيت المواقف، وتقويض فعالية القوى المدنية؟

إنّ الإجابة الصريحة عن هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن تمهّد الطريق نحو مراجعات مفصلية ضرورية، خاصة في ظل تضخم التحديات التي باتت تهدد وجود واستمرار الحياة السياسية والمدنية نفسها في السودان.

اليوم، تحتاج القوى المدنية السودانية، وفي مقدمتها “تقدم” ومكوناتها، إلى إعادة تعريف أهدافها الاستراتيجية بدقة في هذه اللحظة العصيبة من تاريخ البلاد، وإلى النظر بتمعن أكبر في الأدوات المختلفة التي تستخدمها لتحقيق تلك الأهداف، بما في ذلك التحالف نفسه وما يقوم به، لتقييم ما إذا كانت هذه الأدوات تقرّبها من الأهداف أم تبعدها عنها.

موقع المنبر
Logo