“عبقرية القدال” بقلم .. د. عبدالرحمن الغالي

(1)
أكره الأضواء.. وتكره نفسي أكثر أن تُرى في صحبة المشاهير الذين يجذبون الأضواء. أضعت على نفسي القُرب من شخصيات عظيمة، اكتفيت بمتابعة عطائهم من بعيد، فما يربط المانح والممنوح هو هذا العطاء.
(2)
اندهشت بعمله العبقري ( مسدار أبو السُّرة لليانكي)، قلت لهم انه كتبه ولكن المسدار ليس عمل عقله الواعي، هذا عمل أكبر من طاقة العقل الواعي، وربما هو نفسه لا يدرك كل أبعاد ومعاني هذا العمل.
هل هو تضافر العقل الباطن مع العقل الواعي؟ هل هو إلهام ألقي في روعه؟ أعجبني تداعي المعاني والاستدراكات التي بدأت ( بحِن الأمهات وشمهن وضمهن) هذا الاستدراك الذي يُبعد عن وهم السامع فكرة أن هجرانه الدار التي لم تعد داره كانت لسبب خاص. فهو قد تمرغ في بحبوحة الحنان الذي يشيع الرضا، وتداعي المعاني التي تربط هذا العمل تارة برباط الكلمات التي يذكر بعضها ببعض المواقف ثم فكرة المظاهرة الكونية : مخلوقاتٍ وشعوباً مضطهدة ثائرة، هذا فضلاً عن استخدام الموروث السوداني وطبقاته المتعددة واستخدام الأصوات المتعددة ولا أود الخوض في المزيد إذ بَعُد بيني وبين ذلك النص العهد .
الشاهد أدهشتني عبقرية ذلك الشاب وكنا قبل ذلك إلى الصبا أقرب منا للشباب.
(3)
كنت متابعاً للحركة الفنية والثقافية بأثرٍ من شقيقي الأكبر مرتضى الذي يأتي محملاً بالمجلات والصحف والكتب لذلك كنت أعرف صورة الشاعر المدهش.
دخلت دار الرياضة أمدرمان، في المساطب الشعبية، كان سعر التذاكر زهيداً والشمس حارقة وفي إمكان شاعر مثله أن يدخل بمقاعد الدرجة الأولى التي يُظِل الحائط الغربي روادها من صهد الشمس . كان يجلس بيننا ولا يعرف أغلبية الرواد هذا العبقري الجالس بينهم.
(4)
وفي النصف الأول من الثمانينيات في سنواتي الأولى بالجامعة خرجت من داخلية حسيب أبتغي الذهاب لبيتنا في أمدرمان. كان موقف أمدرمان بعيداً عن الداخلية، وكان الزمان عامراً بالمحبة، كنا نستوقف العربات الخاصة لتقلنا لأمدرمان دون أجرة ( ملح !). أشرت لعربة لاندروفر قديمة نوعاً ما، وقف صاحبها وأقلّنا، كان شاعرنا العظيم.
(5)
في سنة من سنوات الألفية إصطحبت رباح بنتي أمان لفعالية ثقافية وكانت أمان بعدُ طفلة ولكنها كانت تعرف حبي لهذا العبقري، قالت له والدي يعشق شعرك، أهداني ديوانه ( غنوات لحليوة) وكتب عليه إهداءً رقيقاً كنت حريصاً على ذلك الديوان وفيه خطه وكلماته.
(6)
وفي فعاليات دال لازمتني تلك الخصلة الذميمة: الانزواء من المشاهير رغم بساطته وأريحيته وسودانويته ودعوته الطيبة التي تكسر الحواجز وتواضعه وابتسامته وبشاشته التي يقابلنا بها.
(7)
كنت أدعّي بل وما زلت أنه لم يُدْرَس وكنت أنتوي الغوص في قصائده واكتب انعكاس ضوئه على ذهني وروحي ونفسي ولكن كلّما أبدأ في الكتابة أتهيّب ذلك خشية افساد النصوص العميقة المعقدة الماتحة من ينابيع معارف متعددة مختلفة المشارب فأحجم عن ذلك. آخرها تجميع الشواهد والأفكار حول مسداره الذي أدهشني أول أمري.
الآن صرف الله ذلك عني لوجود تلك الشواهد والقصاصات في السودان، وأمر المؤمن كله خير.
( 8 )
اليوم انتبهت لذكرى رحيل جسده عنا، ولم أحضِّر ما أقول فأكتفي بما ينفعه وينفعني : بالدعاء له.
اللهم ارحم عبدك محمد طه القدال وأنزله مع الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم، والهم آله الأقربين رحماً ونسباً والهمنا نحن المحبين له الصبر وحسن العزاء، وخذ بيد البلاد التي أحبها وأحببناها إنك على كل شيء قدير وبالاجابة جدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

موقع المنبر
Logo