لامدر اعودا مشاهدات العودة السبعية (٤) “جيش وخيل ومركب سلام” بقلم .. رباح الصادق المهدي

(١)
ما كانت هذه العودة للبقعة من الاثنين للاثنين ممكنة لولا صحبة شقيقي الأمير، فبعد أن اطلعت على تقارير مصورة مقلقة عن المكتبة (ب) والتي تشكل كل الكتب والاغراض في مخدع الحقاني عليه الرضوان تحادثت معه وعلمت أنه متجه من بورتسودان لامدر فنبعت فكرة أن اصطحبه لاطمئن على إجراءات سلامة إرث الحقاني ، وتأخر مشكورا حتى حضرت وحضر كذلك الحبيب عادل شريف الذي كان متشوقا لتفقد العقاب في الصافية.
وبالتالي، كنت في صحبة فريق ركن بالجيش، والفريق لا يسمى معاش ويظل حبله بالجيش موصولا، مما جعلنا في رفقة عناصر من الجيش مرات كثيرة.
شكل الأمر بالنسبة لي وضعا مربكا، فأنا لا أخفي شجبي الشديد لما يفعله الدعم السريع ولا تصديقي لسردية أنه بدأ الحرب بانقلاب ظنه خاطفا يستولي فيه على الحكم ويضع البلاد تحت تصرف الكفيل. وفي ذات الوقت فإني ملتزمة بالقرار الحزبي الذي يرى أن دور المدنيين ليس الاصطفاف بل العمل على إيجاد وسيلة تفاهم وصيغة سلام يرضاها الطرفان.
كما أنني لا أنكر وجود انتهاكات ترتكبها عناصر من الجيش أو القوات المستنفرة معه، وارى الاصطفاف معه يزيد غبائن اولئك المصطلين بالقصف من (الحواضن) بل تحت الاصطفاف العنصري والجهوي البغيض صاروا تحت مرمى دعاية حربية عنصرية موغلة في الاسفاف والكراهية.
إن الذين يذمون موقف الحياد المعلن لا يدركون أنه لا يمكن أن يكون هناك محايدون حقيقة فكل شخص له مدخلات يوازن فيها بين أخف الشرين، ولكن الحياد المعلن إنما ينطلق من فكرة واضحة لكل شخص غير أحادي الفكر يعطي مساحة للرأي الآخر، فكرة انني مهما آمنت بصحة موقف ما وبانت لي دلائله فإن هناك مساحة للرأي الآخر ومشروعيته، ومثلما لي مصادر معلومات موثوقة ورؤى فللآخرين مصادر معلومات يثقون فيها ورؤى يطمئنون اليها، وطالما أن الحرب مهما كانت فيها من اياد خارجية اشتعلت بأيدينا وجعلتنا ندمر بلادنا ونعطي كل طامع موطئ قدم فإن حلها ليس في توسعة الشقة بيننا بل في ردم الجسور وتلمس إمكانية التفاهم والاقلاع عن التأجيج. صحيح هناك بؤر لمواقف لا عقل ولا قلب لها تدفعها المطامع و المصالح الشخصية لكن لا شك أن أكثر الجموع في الطرفين تحركها آلة الغبن إضافة لاختلاف الرؤى.
ومن هذا المنطلق تجاوزت الربكة وحينما جمعتني الظروف بمنسوبي القوات المسلحة جهرت برأيي واوضحت موقفي.
(٢)
حينما وصلنا منزل الحقاني صباح الاثنين ١١ أغسطس كان في حراسة الأمير مجموعة من مرتدي الزي المرقع جلهم من لجان المقاومة من ثوار ديسمبر المجيدة تعرفت منهم على الحبيب محمد يحي، صديق الشهيد محمد يوسف (جوني) ومعه شقيق الشهيد حفيد الشيخ الجعلي راجل كدباس وكان محمد يحي لجأ لي لأتعاون معهم في لجنة مقاومة ودنوباوي في تحرير كتاب (الشهيد محمد يوسف جوني: الثورة والعمل الطوعي) الذي أصدرته اللجنة احياء لذكرى الشهيد في يناير ٢٠٢٣م.
قابلت الشباب الذي وجدته يحمل السلاح ضمن المستنفرين وطلب الحبيب محمد يحي أن نلتقط صورة فرحبت بذلك، ثم قيل لي إن بعض الفسباكة وجد في الثوب الذي كنت ارتديه (بالوان متداخلة لئلا يتأثر بعملي وسط الغبار وهبوت الحريق الذي طال منزلنا) مناسبة للحديث عن التجييش على أجساد النساء!
بسم الله الرحمن الرحيم!
لن يغلبني إن أردت الاصطفاف مع الجيش أو ارتداء زيه أن أفعل ذلك بكل شجاعة لأن ما يمنعني عن ذلك ليس خوفي من أحد بل خوفي على البلد!
والثوب الذي ارتديته رسوماته ازاهير واوراق، ولكن الغرض مرض

(٣)
زار الأمير في منزله اللواء حينها (الفريق حاليا) نصر الدين، وقد علمت بزمالته لشقيقي الحبيب ايام هجمات المدرعات الضارية وكان الأمير بصحبة أسرته حتى كمال الدين الذي لم يتعد عمره اشهرا، وحينما علمت ابنتي أمان بخوة الخندق التي ربطته بالامير وأسرته هشت وكل رفقائها ورفيقاتها من شباب الثورة الذين صاروا جزءا من اسرتنا فقد صار صمود اللواء نصر الدين الاسطوري ومن معه بالمدرعات أحد أحجيات الحرب التي يروونها.
وجدت في اللواء نصر الدين عالما متواضعا وهو يتحدث عن تاريخ المقاتل السوداني منذ بعانخي ووصوله لنجدة مصر وسوريا مرورا ببسالات الاورطة السودانية في حرب المكسيك وفي المهدية وما بعدها، وعلمت أن جدته ابنة السيد عبد الصمد شرفي من عمومة الامام المهدي بلبب وقد كان السيد عبد الصمد من أهل الامام الذين استقروا بالجزيرة أبا واستقدموا أسرة المهدي معهم وكان من رموز المهدية ومقاتليها المرموقين. وقد وجدت نفسي افكر بذات منطق الزبير باشا حين نسب بسالة المهدي لأمه الجعلية، فلعل السر في بائين ولام!
وفي الجلسة بديوان الأمير التي حضرها بعض الأحباب والإعلاميين تحدثوا عن مشاهد البسالة التي مرت بهم في المدرعات، وقد لاحظت أنها بسالة سطرها الطرفان، وللاسف حق لنا أن نصف هذه الحرب كما وصف أحد البريطانيين كرري أنها ليست معركة بل مجزرة أبطال. فهذه الحرب ضد الانسان السوداني ومجزرة لأبطاله من الطرفين.
ألا بعدا للحرب أم الخراب
(٤)
سالت اللواء نصر الدين عن حكاية سمعتها معنعنة لم يروها لي الأمير عن علاقة خيله به في المدرعات وكيف كانت متحفزة يوم خطبته بمسجدها، فروى القصة وكيف أن حركة الخيل يومها كانت غير طبيعية وهي تحوم حول المسجد. قال. بعد أن خرج عبد الرحمن من المدرعات اتصل بي يوما وسألني كيف حال الخيل فقلت له: لذيذة! ذلك أنهم حينما جاعوا اكلوها. كان جدهم بعانخي غزا مصر حينما سمع أنهم يأكلون الخيل! ومع محبتهم إياها فقد اضطروا لذلك. والمضطر ياكل خيله.
قال لي شقيقي الحبيب بشرى إنه يعتبر خيله كأبنائه وكانت أحيانا تفديه بروحها.
قال عبد الرحمن إن الخيل بالمدرعات لم تكن كلها خيله فقد لجأت كثير من خيول الاسطبلات للمدرعات ومنهم بعض حصينه. ويبدو أن تلك المخلوقات النبيلة قد أبيدت لحد كبير، وابيد كثير من النبل والخير بين بني الإنسان.
دعونا نأمل أن تكون الخيل فدت السودان وأهل السودان. وان يتقبل الله الشهداء من أبناء الوطن والا يجعل دماءهم عربونا للأحقاد بل عبرة ومركبا للسلام. وذلك أن نقدم حقن الدماء على فش الغباين.
ألا بعدا للحرب والخراب

وليبق ما بيننا

موقع المنبر
Logo