
بقلم: د. عبدالعاطي المناعي
في الوقت الذي يُدير فيه العالم صراعاته عبر مكالمات طارئة واجتماعات عاجلة، يقف السودان وحيدًا في مواجهة حرب تُقارب عامها الثالث دون أن يهتز مقعد دبلوماسي واحد بالجدية المطلوبة لإيقاف الحرب وإيقاف النزيف
شوارع محطّمة، ملايين النازحين، انهيار المؤسسات، ودمار البنية لدولة كاملة… ومع ذلك لا يزال التعاطي الدولي مع المأساة محصورًا بين «القلق» و«الإدانة» والشجب و«الدعوات إلى ضبط النفس»، عبارات لا تُغني ولا تُسمن من موت
وحين نقارن بين هذا الصمت وبين التعامل الدولي مع حروب أخرى، تتضح المفارقة فحرب الهند وباكستان توقفت خلال أيام بعد ضغوط كثيفة،وتحرك دولي عاجل ذلك لأن مصالح الكبار كانت في دائرة الخطر
مكالمة واحدة أوقفت صدامًا نوويًا محتملاً. لكن السودان، رغم نزيفه الممتد وخطره الإقليمي، لا يبدو أنه يملك ما يكفي من أوراق المصالح كي يلفت انتباه العالم
هل انقطعت خطوط الهاتف عندما تعلق الأمر بالسودان؟
أم أن رصيد الإنسانية نفد؟
دفتر العالم: مصالح أولاً… والإنسان آخرًا
يتعامل المجتمع الدولي مع السودان بمنطق «إدارة الأزمة لا حلّها». ما دام النزيف لا يمس أسواق الطاقة، ولا يهدد الممرات البحرية الكبرى، ولا يؤثر مباشرة على الحلفاء، فإن الأزمة تُترك على الهامش
قرارات بطيئة، بيانات متكررة، لجان محايدة، ومؤتمرات مانحين لا تُعيد نازحًا إلى منزله ولا تعالج مصابا ولا أرتب علي كتفه طفل
هكذا تُدار حرب بحجم حرب السودان: ببيروقراطية باردة تُساوي بين الضحية والجاني، وتضع المأساة في خانة انتظار الأولويات الجيوسياسية.
مدني والجيلي… حلقات منسِيّة سبقت الانفجار
قبل أن تتصدر الفاشر المشهد الدولي كواحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في القرن، شهد السودان سلسلة أحداث دموية رسمت خريطة الانهيار:
مدني: المدينة الزراعية الهادئة تحوّلت إلى نقطة انهيار كبرى. عمليات قتل ونهب وتهجير، مستشفيات توقفت، ومواطنون هربوا من منازلهم إلى العراء
الجيلي: إحدى أهم مصافي الخرطوم ، عاشت سيناريو مشابهًا؛ اقتحامات، ترويع، نزوح جماعي، وغياب كامل لأي حماية دولية أو إنسانية
وبين المدينتين… عشرات القرى والمناطق التي سقطت من سجل الاهتمام العالمي، رغم أنّ كل منها كان علامة واضحة على أن السودان يتجه نحو انهيار شامل
هذه الأحداث لم تكن مجرد فصول مشتتة؛ كانت مقدمات متتابعة لكارثة أكبر
الفاشر… المدينة التي صارت مرآة للعجز الدولي
مع دخول الأزمة فصلها الأكثر دموية، برزت الفاشر باعتبارها الجرح المفتوح الذي لم يعد ممكنًا تجاهله
مدينة محاصرة،لسنوات عشرات الآلاف من المدنيين تحت النار، طرق مغلقة، مستشفيات خرجت من الخدمة، جرحى يموتون بسبب نقص الدواء، وأُسر تهرب ليلًا بحثًا عن بقعة آمنة
مشاهد النزوح الكثيف، والحرائق التي التهمت الأسواق والأحياء، وروايات الانتهاكات الواسعة… كلها كانت كافية لإطلاق دق ناقوس الخطر عالميًا.
لكن العالم اكتفى بالمشاهدة والتنديد
الفاشر لم تكن مجرد مدينة في حالة حرب؛ كانت نقطة اختبار كشفت هشاشة النظام الدولي، وضعف آليات التدخل، وعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين حتى في أخطر اللحظات
لماذا لا يتدخل العالم؟
الإجابة مؤلمة لكنها واضحة:
لأن الحرب في السودان لم تصل بعد إلى مستوى يهدد مصالح القوى الكبرى
لا منشآت نووية.
لا خطوط غاز.
لا ممرات تجارية استراتيجية على المحك.
ولذلك يبقى التدخل محدودًا، بينما يُترك المدنيون لمصيرهم.
لكن السؤال الأهم:
هل يمكن لعالم يدّعي حماية السلم الدولي أن يتجاهل حربًا بهذا الحجم؟
وهل يمكن لمأساة مستمرة في قلب إفريقيا أن تبقى خارج دائرة التحرك؟
لن احد اجابات بالطبع
كيف تقترب النهاية؟
الحرب لا تتوقف بالصدفة، ولا تنتظر صحوة ضمير دولي. فقط توقفها ثلاثة مسارات متشابكة:
1. إرادة سودانية لفتح باب تسوية سياسية لا تستثني أحدا فالجميع تحت علم السودان سواء
لوقف نزيف المدن، ولانهاء رهانات الحرب على حساب المدنيين.
2. ضغط إقليمي حقيقي بحجم المأساة وليس بحجم الضمير العالمي فهو للاسف لا وزن ولا حجم له
وقف الدعم العسكري، وتجفيف مصادر الوقود التي تغذي الصراع، وتعزيز مسار الاستقرار
3. تدخل دولي ملزم حازم
ليس ببيانات، بل بقرارات تُحمّل الأطراف مسؤولية استمرار القتال، وتربط ذلك بالالتزام بوقف إطلاق النار بالقوة الا تكفي بحور الدم التى تمت رؤيتها من الأقمار الصناعية ولاول مرة في التاريخ
هناك قاعدة معروفة في إدارة الحروب تقول:
تنتهي الحرب عندما يصبح استمرارها أغلى من إيقافها
وفي السودان، ما زال السلاح أرخص من السلام، والفوضى مربحة لبعض الأطراف.
الفاشر ليست النهاية… لكنها الإنذار الأخير
المأساة السودانية لن تُدفن ما لم تُرفع أصوات الداخل والخارج. والإعلام، والكتابة، والضغط الشعبي، جميعها أدوات لكسر الصمت وتذكير العالم بأن ما يجري ليس حدثًا عابرًا بل جريمة ممتدة
ما نكتبه اليوم ليس ترفًا . إنه توثيق لأيام سوداء لا يجب أن تُنسى.
فالوطن الذي لا يُدافع عنه بالسرد، سيُعاد اغتياله بالنسيان
السودان لا ينتظر معجزة… ينتظر عدالة، وضميرًا، وقرارًا شجاعًا يعيد لهذا الشعب حقه في الحياة.
وإلى أن يحدث ذلك، سيبقى السؤال معلقًا:
هل العالم خارج التغطية… أم أن دماء السودانيين لا تكفي لملء رصيد اهتمام القوى العالمية ؟


