
الخرطوم: المنبر24
في عصر أصبحت فيه التطبيقات المصرفية شريان حياة يوميًّا، من الطبيعي أن يقلق المستخدم عند ظهور رسالة «الخدمة غير متاحة» لفترة وجيزة. لكن من غير العادل تحويل كل توقف مُجدول للصيانة إلى «فضيحة» أو اعتباره دليل ضعف أو فشل. الحقيقة البسيطة: الصيانة المجدولة جزء أساسي من أي خدمة مصرفية رقمية محترمة، وهي ممارسة شائعة لدى كبرى البنوك العالمية، التي تُخطِّط فترات توقف قصيرة لتحديث أنظمتها وتحسينها – مع إعلام عملائها مسبقًا وبشفافية كاملة.
صيانة مخططة: ممارسة عالمية معتادة
لا يقتصر الأمر على بنكٍ دون آخر؛ معظم البنوك الكبيرة حول العالم تقوم بإعلام عملائها عن نوافذ صيانة مجدولة تتوقف فيها بعض الخدمات بشكل مؤقت. على سبيل المثال، لدى بنك HSBC أستراليا صفحة خاصة لجداول الصيانة تحدّد بدقة فترات الانقطاع المخطط لها: كأن يُعلن عن توقف الخدمات من 10:00 مساءً حتى 11:00 مساءً في أحد الأيام . وأحيانًا يحدد البنك خدمات معيّنة ستتأثر؛ مثل إعلان عن صيانة فجريّة ستجعل التحويلات الدولية غير متاحة عبر التطبيق من 5:00 فجراً إلى 7:30 فجراً . الشفافية حاضرة في كل تفصيل: الوقت محدد بالدقيقة، وما الذي سيتعطل بالضبط.
بنك آخر مثل HSBC فيتنام ينشر إخطارات صيانة متكررة بمواعيد واضحة: على سبيل المثال، تمت جدولة صيانة لنظامهم يوم 26 يوليو 2025 من 9:30 مساءً حتى منتصف الليل، وخلالها كان تطبيق الموبايل وخدمة التحويلات الفورية غير متاحين . وفي إشعار آخر، أعلنوا عن صيانة من 11:30 مساءً حتى 2:00 فجراً، موضحين أي القنوات والخدمات ستتوقف (التطبيق، بعض خدمات البطاقات، الخ).
في كندا، يرسل Royal Bank of Canada (RBC) تنبيهات لعملائه عن صيانة روتينية – غالبًا في عطلة نهاية الأسبوع – ويذكر نوافذ زمنية محددة بدقة. على سبيل المثال، قد يعلن أن الخدمات المصرفية عبر الإنترنت ستكون غير متاحة من 1:55 صباحاً حتى 3:00 صباحاً بتوقيت شرق كندا في يوم محدد من الأسبوع. هذا التوقيت الدقيق (ربما يبدو غريباً كونه 1:55 وليس 2:00 بالضبط!) يؤكد أن البنك حريص على تقليل فترة الانقطاع قدر الإمكان وتفصيلها للعملاء.
أما في بريطانيا، يصرّح NatWest صراحةً بأن لديه فترة صيانة يومية قصيرة جدًا للحفاظ على تحديث الأنظمة. هذا البنك البريطاني يوقف خدماته الإلكترونية كل يوم بين الساعة 1:55 صباحاً و2:30 صباحاً (بتوقيت المملكة المتحدة) لإجراء «صيانة أساسية» ضرورية لإبقاء الأنظمة محدثة . خلال هذه الدقائق، لن يتمكّن المستخدمون من تسجيل الدخول، لكن البنك اختار وقتًا في عُمق الليل لضمان أن معظم العملاء لن يشعروا بذلك تقريبًا.
وفي آسيا، لدى Citibank سنغافورة مثلاً جدول صيانة روتيني في عطلات نهاية الأسبوع؛ يُعلن أنه ربما لا تتوفر خدمات تطبيق Citi والإنترنت البنكي بين منتصف الليل والساعة السابعة صباحاً في أيام السبت أو الأحد المحددة للصيانة. وكذلك Maybank في ماليزيا يحدد مسبقًا مواعيد صيانة بتواريخ وساعات دقيقة: على سبيل المثال السبت 20 سبتمبر 2025 من 3:00 فجراً حتى 8:00 صباحاً لبعض الخدمات، ومن 12:00 منتصف الليل حتى 8:00 صباحاً لقنوات أخرى – مع ذكر المنطقة الزمنية المحلية لتفادي أي لُبس للعملاء.
حتى البنوك الرقمية المتقدمة في أوروبا تقوم بذلك بانتظام. في ألمانيا، ينشر بنك ING Deutschland على موقعه قسمًا بعنوان «الإصدارات والتوقفات» (Releases & Downtimes) يعلن فيه مسبقًا عن إطلاق تحديثات كبرى وما يصاحبها من انقطاع. أحد الإعلانات أوضح أن خدمة الإنترنت البنكي والتطبيق ستتوقف من الجمعة الساعة 23:00 إلى السبت حوالي الساعة 14:00 . البنك شرح لعملائه السبب بوضوح: هناك تحديثات تقنية معقدة في أنظمة الـBackend (الخوادم وقواعد البيانات) تتطلب هذا التوقف المؤقت للـFrontend (واجهة المستخدم كالتطبيق والموقع) لضمان أمن البيانات والاستمرار في مواكبة أحدث التقنيات . وأكد ING أنه يختار تنفيذ هذه التحديثات ليلًا لتقليل تأثيرها على العملاء ، كما طمأن المستخدمين بأن الدفع بالبطاقات أو الهواتف (Apple Pay/Google Pay) سيستمر بالعمل أثناء فترة الصيانة ، أي أن الاحتياجات الأساسية ستلبى حتى لو كان التطبيق معطلاً مؤقتًا.
يمكننا سرد المزيد من الأمثلة: منصة CitiDirect BE التابعة لسيتي بنك أعلنت رسميًا عن توقف خدماتها من الخامسة مساءً حتى الخامسة فجرًا للصيانة، Kotak Mahindra Bank في الهند أخطر عملاءه بأن بعض الخدمات (مثل المدفوعات عبر واجهة UPI والمصرفية عبر الإنترنت والصرافات) ستتعطل لمدة ساعة بسبب صيانة مجدولة… وهكذا دواليك.
الخلاصة من هذه الأمثلة: حدوث توقف مخطط له ضمن “نافذة زمنية” محددة هو ممارسة قياسية لدى البنوك الكبيرة عالميًا. الفرق الحقيقي ليس في وجود التوقف من عدمه – لأنه يحصل حتى لدى أكبر البنوك – بل في كيفية إدارة التوقف: الشفافية، الوضوح في ما سيتأثر وما لن يتأثر، والإعلان المسبق لتجنب مفاجأة العملاء.
لماذا تحتاج التطبيقات المصرفية للتوقف للصيانة؟
قد يتساءل البعض: لماذا لا تجري البنوك تحديثاتها “خلف الكواليس” بدون إيقاف التطبيق؟ الحقيقة أن الأنظمة المصرفية معقدة ومتشابكة، وأحيانًا لا بد من توقف مؤقت لضمان تحديث آمن وسلس. فيما يلي أبرز الأسباب التقنية وراء الحاجة للصيانة المجدولة:
1. تحديثات أمنية حاسمة (Patch Management):
التحديثات الأمنية الدورية، المعروفة بالترقيعات أو الـPatches، هي خط الدفاع الأول ضد الهجمات الإلكترونية. الثغرات البرمجية الجديدة تُكتشف باستمرار، وإن لم تُغلَق بسرعة فقد يستغلها المخترقون لاختراق النظام أو سرقة البيانات. تشير إرشادات أمن المعلومات (حتى لدى جهات رقابية أمريكية مثل مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية FDIC) إلى أن عدم تطبيق الترقيعات اللازمة يعرّض المؤسسة المالية لمخاطر جسيمة – فقد تؤدي الثغرات غير المعالجة إلى انعدام توفر النظام أو خلق نقاط ضعف أمنية أو إفساد البيانات . وبالمقابل، فإن إدارة الترقيعات بفعالية تساعد البنوك على سد الثغرات وتقليل مخاطر الاختراق والتعطيلات التشغيلية . ولكن تطبيق الترقيعات نفسها قد يتطلب توقفًا مؤقتًا: فغالبًا ما تستوجب عملية تثبيت التحديثات وإعادة تشغيل الخوادم إيقاف بعض الخدمات أثناء العمل . بمعنى آخر، لحماية أمنك وأموالك، قد يضطر البنك لإطفاء الأنوار قليلًا – تمامًا كمن يقوم بإصلاح قفل الباب لتعزيز الأمان، يحتاج لفتحه لبعض الوقت ثم إعادة تركيبه محكمًا. وللحفاظ على سلامة النظام، تُجرى اختبارات على التحديثات قبل وبعد تثبيتها، مما قد يستلزم بضع ساعات من عدم توفر الخدمة لضمان أن كل شيء يعمل بشكل صحيح بعد التحديث .
2. حماية “التوافرية” واستقرار الخدمة:
المفارقة أن توقفًا قصيرًا مخططًا اليوم قد يكون هو ما يحمي الخدمة من توقفات أطول غير مخططة غدًا. فالبنك لا يقوم بالصيانة لمجرد إضافة مزايا جديدة فحسب، بل لضمان أن النظام يستمر بالعمل باستقرار وأمان. الجهات الرقابية وخبراء التقنية يؤكدون أن تحديث الأنظمة باستمرار هو جزء من الحفاظ على توافرية الخدمات المصرفية للعملاء. أي خلل طارئ في تطبيق مصرفي قد يضر بسمعة البنك ويغضب العملاء – لذلك تستثمر البنوك في الصيانة الوقائية لمنع الأعطال الفجائية الكبيرة. وبلغة بسيطة: التوقف القصير والمعلن لأغراض وقائية اليوم هو ما يمنع تعطلًا كبيرًا غير متوقع في المستقبل. لذا، الصيانة المجدولة هي استثمار في موثوقية الخدمة وليست ترفًا زائداً.
أيضًا، التحديثات قد لا تكون مرئية للمستخدم على الفور، لكنها تهيئ البنية لإضافة مزايا مستقبلية وتحسّن الأداء خلف الكواليس. البنك هنا لا يحمي أمنك فحسب، بل يحمي استمرارية الخدمة بحيث تبقى قادرة على تلبية احتياجاتك دون انقطاعات مطوّلة.
3. تغييرات هيكلية عميقة (Backend Upgrades):
أحيانًا يجري البنك تغييرات جذرية على الأنظمة الخلفية – كترقية قاعدة البيانات الأساسية، أو إعادة هيكلة خدمات الخادم (server services)، أو ربما دمج أنظمة جديدة. هذه العمليات معقدة جدًا ولا يمكن تنفيذها “على الطاير” والتطبيق يعمل بشكل طبيعي. لقد أوضحت لنا تجربة ING ألمانيا المذكورة سابقًا كيف أن أي تعديل كبير في الـBackend يستلزم إيقاف الـFrontend مؤقتًا . لماذا؟ ببساطة لضمان تزامن البيانات وسلامتها. خلال تحديث قاعدة بيانات مثلًا، لو استمر المستخدمون بإدخال معاملات مالية فقد تضيع أو يحصل تضارب في البيانات. لذا يقرر البنك إيقاف مؤقت للخدمة الأمامية حتى ينتهي التعديل الخلفي بأمان. ING شرحت لعملائها أنها تفعل ذلك لضمان أمن بياناتهم ولتبقى على أحدث مستوى تقني ممكن – أي أنهم يوقفون التطبيق لبعض الوقت كي يعود أفضل وأقوى. هذه التحديثات الكبيرة عادةً ما تحدث بوتيرة قليلة (مثلاً 3 مرات في العام لدى ING ألمانيا )، ويتم حشد فرق تقنية وإدارة للمراقبة طوال نافذة التوقف حتى يعود النظام للعمل بشكل سليم. ومن الخبرة العالمية، كثيرًا ما نرى البنوك تختار عطلة نهاية الأسبوع أو العطلة الرسمية لإجراء هكذا ترقيات هيكلية، حتى تكون الأنشطة المصرفية اليومية للعملاء أقل ما يمكن تأثرًا.
4. نوافذ صيانة روتينية لضمان التحديث المستمر:
إلى جانب التحديثات الكبرى الموسمية، بعض البنوك تعتمد نوافذ صيانة دورية (مثلاً أسبوعية أو يومية) لإجراء تحسينات صغيرة مستمرة. ذكرنا مثال NatWest الذي اختار يوميًا بضع دقائق في الفجر لتحديث أنظمته . لماذا يوميًا؟ لأن الأنظمة المصرفية تتطلب صيانة مستمرة: ضبط إعدادات الخوادم، تنظيف قواعد البيانات، أرشفة بيانات قديمة، مراقبة أداء الشبكة… إلخ. القيام بهذه المهام بشكل متكرر وعلى جرعات صغيرة يساعد في تفادي تراكم المشاكل، ويجعل كل عملية صيانة قصيرة جدًا وغير ملحوظة تقريبًا. وبدلاً من انتظار وقوع عطل كبير ثم إصلاحه، يُفضّل البنك إجراء صيانة استباقية تحافظ على الأنظمة في أفضل حال. هذا النهج الاستباقي يقلل جدًا احتمال حدوث توقفات مفاجئة طويلة خلال أوقات العمل. يمكن تشبيه ذلك بصيانة السيارة: فحص سريع للزيت والمحرك بشكل دوري يجنبك الأعطال الخطيرة أثناء السفر.
إذن، حين نرى بنكًا يعلن عن توقف لتطبيقه لمدة ساعة عند الفجر بغرض الصيانة، يجب أن ندرك أن هذا في الأغلب إجراء لصالحنا كعملاء قبل أي شيء آخر – لضمان بقاء الخدمة آمنة ومتاحة باستمرار. وكما يقول المثل التقني: «إذا لم يكن مكسورًا… قم بصيانته على أي حال!» لأن الصيانة الاستباقية هي التي تمنع الانكسار الحقيقي.
تطبيق “بنكك”: شريان حياة في زمن الحرب وتحدي النجاح
بعد استعراض الممارسات العالمية وأسباب الصيانة، لنعد إلى تطبيق “بنكك” من بنك الخرطوم – التطبيق الذي أصبح بحق شريان الحياة المالية للسودانيين خاصةً في الفترة الأخيرة. هذا التطبيق ليس مجرد أيقونة على هواتفنا؛ إنه نتاج استثمار وجهد طويل، وازدادت أهميته أضعافًا خلال الأزمة التي مرت بها البلاد.
أولاً، يجدر أن نتذكر مكانة بنكك من منظور الأعمال والتقنية. بنك الخرطوم نفسه يعرّف تطبيق “بنكك” بأنه حل مصرفي متكامل مصمم للوصول للحساب بسهولة وأمان على مدار الساعة. يقدم التطبيق باقة واسعة من الخدمات: تحويل الأموال بين الحسابات والبنوك، دفع الفواتير، شراء الرصيد والخدمات، سحب نقدي بدون بطاقة عبر الصرافات الآلية، دفع عبر رمز الـQR في نقاط البيع، إدارة الحسابات والبطاقات، وحتى تجديد البيانات الشخصية. كما يوفر البنك قنوات دعم مثل مركز اتصال لخدمة مستخدمي التطبيق. هذه المواصفات ليست ملامح “تطبيق بدائي” أو مشروع هواة؛ بل هي مواصفات منصة مصرفية مؤسسية متطورة يتم تطويرها وتحسينها باستمرار. تطبيق بهذه الأهمية هو أشبه بفرع مصرفي رقمي متنقل في يد كل عميل – وبالتالي، العناية بهذا الفرع الرقمي وصيانته أمر بديهي لضمان استمرار خدماته بنفس الجودة.
ثانيًا، النجاح الكبير لتطبيق بنكك يفسر حاجته للصيانة الدورية. وفق وثائق دولية موثوقة، شهد التطبيق نموًا هائلًا في قاعدة مستخدميه. صرّح رئيس مجلس إدارة بنك الخرطوم فضل محمد خير لوسيلة إعلام عالمية بأن لدى بنكك حاليًا حوالي سبعة ملايين مستخدم (والعدد في ازدياد)، وأنه منذ اندلاع الحرب في السودان حصلت زيادة بنسبة 85% في عدد تفعيلات التطبيق . هذه الأرقام الضخمة تعني ضمناً أن البنية التقنية للتطبيق تحمل ضغطًا متصاعدًا من العمليات اليومية. مجرد كون الملايين يعتمدون عليه لإجراء عشرات الآلاف من المعاملات يوميًا يعني أن النظام يعمل بأقصى طاقته تقريبًا. وتشير تقديرات دولية (مثل تقرير لمجموعة CGAP التابعة للبنك الدولي) إلى أن تطبيق بنكك قام بتيسير أكثر من 50 مليون معاملة مالية خلال الفترة التي تلت اندلاع الحرب . هذا رقم مذهل يبين إلى أي مدى كان التطبيق نشطًا وحيويًا في أحلك الظروف. بالطبع، كلما زاد الضغط على أي نظام تقني، ازدادت الحاجة لصيانته لضمان استمراريته – ليس لأن النظام ضعيف، بل لأنه حيّ ونشط ويخدم ملايين العمليات بلا توقف.
ثالثًا، لا يمكن الحديث عن بنكك دون التطرق إلى دوره البطولي خلال حرب السودان الأخيرة (منذ أبريل 2023). عندما اندلعت الأزمة وتوقفت كثير من الخدمات التقليدية، برزت التطبيقات المصرفية كحل إنقاذي لملايين المواطنين . تعرضت البنوك وفروعها لهجمات وسرقات، وشهدت البنية التحتية المالية انهيارات في بعض المناطق . في خضم ذلك، كان بنك الخرطوم أحد المؤسسات التي حاولت بسرعة إبقاء قنواتها الرقمية تعمل رغم كل المعوقات. نعم، في الأيام الأولى للقتال توقفت خدمة بنكك لعدة أيام واضطربت المعاملات – وهذا كان أمرًا شبه حتمي بعد ضرب مراكز البيانات وانقطاع الاتصالات . ملايين الناس تأثروا خلال تلك الفترة الحرجة لأن التطبيق كان قد أصبح وسيلتهم الرئيسية للدفع والحصول على الأموال . تخيل حجم التحدي: بنية مصرفية تحت القصف، وكوادر فنية تحاول إعادة النظام للعمل من مواقع بديلة وسط انقطاع الكهرباء والإنترنت!
ورغم قتامة المشهد، عاد بنكك للعمل خلال وقت ليس بالطويل بفضل جهود جبارة من بنك الخرطوم. جزء كبير من الفضل يعود إلى أن البنك كان قد استثمر مسبقًا في بنية تحتية قوية ومستقلة. على سبيل المثال، كشف تقرير متخصص أن استقلالية نظام بنكك عن الشبكة المركزية ساعدت في استمراره؛ فبينما تعطلت شبكة الدفع الوطنية (المسؤول عنها البنك المركزي) بسبب الحرب، تمكن بنك الخرطوم من تشغيل معاملات بنكك لأنه يمتلك منظومة تحويل داخلي (سويتش) خاصة به . هذا القرار التقني الاستراتيجي – بامتلاك “محول” خاص – كان بمثابة قارب نجاة أبقى التطبيق طافياً عندما غرقت المنظومة المركزية.
كما يُذكر أن بنك الخرطوم قام بنقل وتشغيل مركز عملياته من مناطق الخطر إلى مواقع أكثر أمانًا (على غرار انتقال العديد من المؤسسات إلى بورتسودان والمدن الآمنة نسبيًا)، مما سمح لمهندسيه باستعادة الخدمات تدريجيًا. وبحلول مايو 2023 تقريبًا، استؤنفت خدمات التطبيقات المصرفية الرئيسية بما فيها بنكك لدى كثير من العملاء، لتعود شريانًا يضخ السيولة في أوصال الاقتصاد المنهك . منذ ذلك الحين وحتى اليوم، ظل التطبيق يعمل كخط حياة: الناس تستخدمه لشراء الطعام ودفع تكاليف المواصلات بعيدًا عن مناطق الخطر ، ولتلقي تحويلات من ذويهم في الخارج لدعمهم في الداخل . حتى مع عوائق الإنترنت، ومع التضييقات التي حصلت أحيانًا، كان بنكك هو نقطة النور الإلكترونية التي يعتمدون عليها. إن الحفاظ على تشغيل منصة بهذا الثقل وسط حرب طاحنة ليس إنجازًا عاديًا؛ إنه دليل التزام من البنك وفريقه التقني تجاه الناس الذين يخدمهم.
رابعًا، شفافية بنك الخرطوم في الإعلان عن صيانة بنكك الأخيرة تشير إلى اتباعه نفس النهج العالمي السليم. فقد نُشر مؤخرًا تنويه من البنك عن صيانة دورية مجدولة للتطبيق، مع تحديد نافذة زمنية واضحة (مثلاً من 11:30 مساءً حتى 1:30 فجرًا) ذُكر أنها تهدف إلى “تعزيز أداء الأنظمة ورفع الاستقرار” لضمان تجربة “سلسة وآمنة” للمستخدمين. هذا تمامًا ما تفعله البنوك الكبرى: إعلان مسبق + توقيت محدد + شرح مبسّط للسبب. وبالفعل، تمت الصيانة وعاد التطبيق للعمل بشكل طبيعي، وربما شعر البعض أن الأداء أصبح أفضل بعد تلك الليلة.
من المهم أن ندرك أنه كلما زاد اعتمادنا على بنكك واتسع نطاق استخدامه، يصبح من الطبيعي أن يحتاج إلى صيانة أكثر انتظامًا – ليس لأنه ضعيف، بل لأنه أصبح جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية المالية، وأي خدمة بهذا الحجم تتطلب اهتمامًا مستمرًا لضمان استمراريتها بنفس الكفاءة. إنه الثمن الإيجابي للنجاح: التطبيقات الصغيرة قليلة المستخدمين قد لا تضطر للتوقف كثيرًا (وربما أيضًا لأنها لا تضيف مزايا جديدة أو لا تواجه تحديات نمو)، أما التطبيقات التي تصل إلى الملايين وتتعامل مع اقتصاد بأكمله، فهي في تطور دائم وتحديث دائم… وبالتالي تحتاج صيانة دائمة.
بين النقد البنّاء والهجوم غير المبرر
من حق أي عميل أن ينتقد خدمة واجه بسببها مشكلة أو تعطلاً غير متوقع – هذا حق أصيل، وعلى البنك أن يستمع له ويحاول معالجة الخلل وتحسين التجربة. لكن من المهم أن نميز بين النقد البنّاء و الهجوم غير العادل. عندما يقوم بنك بإعلام عملائه بشفافية عن توقف مجدول وقصير لأجل تحسين الخدمة، ثم يُقابل ذلك بحملة تهويل أو اتهام بالإخفاق، فعلينا التوقف والتساؤل: هل هذه ردة فعل موضوعية أم مبالغة؟
للأسف، في عصر التواصل الاجتماعي والمنافسة الشرسة، قد تختلط الحقائق أحيانًا بالإشاعات، وقد يستغل البعض أي حدث – مهما كان طبيعياً ومعتاداً – لتوجيه انتقادات غير موضوعية أو خلق ضجة سلبية. رأينا بعض التعليقات التي تُضخّم موضوع صيانة بنكك وكأنه انهيار للخدمة، أو تُجري مقارنات غير منصفة تتناسى أن كل البنوك الأخرى تقوم بالأمر نفسه خلف الكواليس. بل يصل الأمر أحيانًا إلى تداول معلومات مغلوطة أو اجتزاء سياقات – ربما بدافع المنافسة التجارية أو أغراض أخرى – فيصبح المشهد ضبابيًا بين شكوى عميل حقيقيّة، وبين حملة منظمة للتشويه.
هنا يبرز دور الإعلام المهني والتواصل الذكي من جانب البنك. أفضل رد على التشكيك غير المبرر هو المزيد من الشفافية والمعلومات الدقيقة. عندما يكون الجمهور مطلعًا على الحقائق، تقل فاعلية الإشاعة. ومن حسن الحظ أن بنك الخرطوم قد بدأ بالفعل بهذا النهج عبر نشر بيانات وتوضيحات رسمية حول التطبيق وصيانته وتطويراته. إن اعتماد سياسة تواصل استباقية سيحول دون ترك فراغ تملؤه الشائعات. وفي هذا السياق، هناك بعض الممارسات العالمية المقترحة التي يمكن أن يتبناها البنك لتعزيز ثقة الجمهور وتفادي البلبلة:
• صفحة حالة الخدمة (Status Page): تخصص على موقع البنك أو داخل التطبيق صفحة تعرض حالة خدمات بنكك مباشرةً (شغّالة أم في صيانة أم متأثرة بمشكلة ما)، مع وقت التحديث المتوقع. بهذه الطريقة، لا يحتاج العميل للتخمين؛ يرى بنفسه الحالة موثّقة بشكل رسمي ومستمر. كثير من البنوك العالمية لديها مثل هذه الصفحة لإطلاع المستخدمين بشكل لحظي على أي طارئ.
• تنبيه مسبق داخل التطبيق: من الأفكار الممتازة أن يظهر تنويه داخل تطبيق بنكك قبل موعد الصيانة بـ24 ساعة أو أكثر، يُعلم المستخدم بالوقت المقرر للتوقف. ويمكن إضافة عداد تنازلي (Countdown) لطيف يشير إلى المدة الباقية حتى بدء الصيانة. بذلك، حتى من لم يرَ إعلان البنك على فيسبوك أو غيره، سيعرف مباشرةً من التطبيق نفسه ويخطط تعاملاته حول فترة التوقف.
• توضيح البدائل أثناء الصيانة: أسلوب احترافي آخر هو إخبار العملاء مسبقًا بما الذي لن يتأثر أثناء توقف التطبيق. مثلاً: “خلال فترة الصيانة، ستظل بطاقاتكم البنكية تعمل في نقاط البيع والصرافات كالمعتاد”، أو “يمكنكم استخدام خدمة USSD القصيرة للمعاملات الأساسية ريثما يعود التطبيق” (إن توفرت). بهذا الأسلوب، يشعر المستخدم بالطمأنينة أنه حتى لو تعطل جانب، فهناك بديل متاح للاحتياجات الضرورية. وقد رأينا ING ألمانيا تفعل ذلك عندما نبّهت إلى أن الدفع بالبطاقة سيبقى فعالًا رغم توقف التطبيق .
• تقرير ما بعد الصيانة: بعد انتهاء التحديث، قد يكون من الجيد نشر موجز يشرح ماذا تم تحسينه أو إصلاحه خلال الصيانة. مثلاً: “أنهينا التحديث بنجاح – تم تعزيز مستوى الأمان وتحديث البنية التحتية لتحسين سرعة التحويلات”. هذا النوع من التواصل يبني الثقة؛ فالعميل يشعر أن التوقف الذي تحمله قد أثمر فائدة ملموسة. كما أنه يُظهر البنك كجهة حريصة على التطوير المستمر وخدمة العميل.
باتباع هذه الأساليب، ستتحول الصيانة من نقطة سلبية محتملة إلى علامة على الاحترافية في إدارة الخدمة. وسيصعب حينها على أي جهة خارجية قلب الأمر إلى هجوم، لأن الحقائق ستكون واضحة للكل.
وأيضًا، على الجمهور نفسه مسؤولية في التمييز. لسنا نقول ألا تنتقدوا تطبيق بنكك أبدًا؛ أي منتج ليس فوق النقد. لكن فلنكن منصفين: نفرّق بين عطل حقيقي غير مبرر يستحق الاعتراض، وبين توقف مُعلن لأجل مصلحتنا المشتركة. إذا كنا نتقبل أن شركة الكهرباء قد تقطع التيار لساعة لصيانة الشبكة (ونفهم أنه لصالحنا كي لا ينقطع التيار لأيام لاحقًا)، فلماذا لا نتقبل مبدأ شبيهًا في الخدمات الرقمية؟
الخلاصة: لنقدّر النجاح ومسؤولية من يقف خلفه
في نهاية المطاف، عندما يتوقف تطبيق مصرفي ضمن نافذة صيانة مجدولة ومعلنة سلفًا، فإن ذلك ليس عيبًا أو فشلاً في حد ذاته. غالبًا ما يكون العكس صحيحًا: إنه علامة على حوكمة تقنية سليمة ووعي أمني ورغبة في تحسين الخدمة باستمرار. أكبر البنوك في العالم تفعل ذلك بانتظام، وتصرّح عنه بدقائق التوقيت لأن عملاءها يفهمون أن هذا لمصلحتهم على المدى الطويل.
تطبيق “بنكك” لبنك الخرطوم قد أثبت نفسه بطلاً رقمياً خلال فترة صعبة للغاية في السودان. لقد كان – ولا يزال – طوق نجاة مالي لملايين الناس عندما تعثرت السبل الأخرى. هذا النجاح لم يأتِ بلا ثمن وجهد؛ وراءه فرق تقنية وإدارية سهرت الليالي، وقرارات جريئة باستثمارات في البنية التحتية، وتحديثات مستمرة للوصول إلى هذه المرحلة. ومن غير الإنصاف أن يُقابل كل ذلك بهجوم مستمر وغير موضوعي. بل العكس: الواجب أن نشجع الناجح ونظهر له التقدير والعرفان. عندما نرى شيئًا إيجابيًا يعمل ويفيد المجتمع في أحلك الظروف، فلنقل: “شكرًا” بدلًا من البحث عن هفواته البسيطة.
لقد علّمتنا تجربة الحرب القاسية قيمة ما كنا نعتبره عاديًا فيما قبل. تعلّمنا أن وجود تطبيق قادر على تأمين احتياجاتنا المالية عن بُعد ليس أمرًا بسيطًا، بل هو إنجاز وجب أن نحافظ عليه ونطوره. إن كان هناك درس لنا جميعًا من تلك الأزمة، فهو أهمية دعم من ينجح في خدمتنا بدلًا من إحباطه. النقد البناء مرحب به لأنه يُحسّن الخدمات، أما جلد النجاحات وكسر المجاديف فلا يجرّ إلا التراجع.
فلنكن جمهورًا واعيًا يُميّز الجوهر من القشور. وعندما نجد خدمة أثبتت جدارتها – كتطبيق بنكك – فلنمنح من وراءها الثقة التي يستحقونها، ولنشارك ملاحظاتنا الإيجابية والسلبية بشكل موضوعي ومخلص بهدف التطوير. بهذا الأسلوب سنضمن أن يظل هذا التطبيق العظيم مستمرًا في كونه شريان حياة رقميًا لنا، ونكون قد أدّينا واجب الشكر لمن نجح وأحسن في عمله، وشجعناه على مزيد من العطاء. فالنجاح مسؤولية كما أن النقد مسؤولية، ومن الإنصاف أن نذكر الجانب المشرق كما ننتقد الجانب المظلم.
وفي الختام، حين ترى رسالة “الخدمة غير متاحة مؤقتًا لأعمال الصيانة” على شاشة هاتفك، تذكر أنها علامة أن هناك فريقًا يعمل خلف الستار بجد من أجلك، ليعود إليك بخدمة أفضل وأأمن. قليل من الصبر والتفهم في هذه المواقف هو ثمن صغير لنضمن استمرار نعمة التكنولوجيا المالية التي سهّلت حياتنا. فلنقل للجميع: نعم، قد يتوقف تطبيق مصرفي قليلاً للصيانة، لكن ذلك من أجل أن لا يتوقف عن العطاء طويلًا. ولنرفع القبعة تقديرًا لكل من يساهم في إبقاء شرايين حياتنا الرقمية نابضة.


