فيصل محمد صالح يكتب عن عرض (وداعا جوليا) بجوبا

أنها سينما سودانية كاملة الملامح !!

فنون: المنبر24
كتب الصحافي، والشاعر، والإعلامي المعروف فيصل محمد صالح وزير الثقافة والإعلام السابق مقالا مطولا عن مشاهدته لعرض الفيلم السينمائي السوداني (وداعا جوليا) بعاصمة جنوب السودان جوبا عبر صفحته الرسمية تحت عنوان (وداعا جوليا .. أهلا جوبا)، مؤكدا ميلاد سينما سودانية كاملة الملامح، وفيما يلي تنشر (فنون المنبر) نص المقال كاملا:
تقرر أن تسافر جوبا في مهمة عمل، فتجد أمامك إعلان عن عرض فيلم “وداعا جوليا” في جوبا، وييسر لك الاصدقاء أتيم سايمون مثيانق شيريلو كل شئ، حتى تكون متوهطا في صالة العرض في نفس يوم وصولك.
مشاهدة الفيلم فرصة عظيمة، بعد كل ما قرأنا وسمعنا عنه، لكن مشاهدة عرضه الاول في جنوب السودان يجعل الفرجة كاملة ومزدوجة، أمامك الفرصة لمشاهدة الفيلم، ومشاهدة ومعايشة انطباعات وردود أفعال جمهور جنوب السودان، ثم دعوة عشاء لطيفة من الصديق دينق قوج مع طاقم القيلم، المنتج أمجد أبو العلا، المخرج محمد كردفاني، النجمة سيران رياك، والمصور خالد، في حضور المضيف ستيفن أوفيرو شيلا، يتواصل فيها النقاش والحوار.
معياري الوحيد للكتابة عن الاعمال الإبداعية التي أشاهدها أو أقرأها هو المتعة، لست ملما بالمذاهب النقدية المختلفة، وربما لا أستخدم معاييرها وأدواتها، إن أعجبني العمل أكتب عنه، وإن لم يعجبني، أتركه.
بعد مشاهدة ممتعة لفيلم “وداعا جوليا” استطيع القول الآن بملء الفم أنه صارت لدينا سينما سودانية كاملة الملامح، ومحققة للمتعة الفنية. قطعنا مشوار طويل في هذا الصدد، تجارب مجموعة الفيلم السوداني، ثم الجهد العظيم لـ”سودان فيلم فاكتوري” وتجاربه الجادة، القفزة الهائلة لأفلام وثائقية وأخرى قصيرة بدأت باطلالات خجولة في المهرجانات، أفلام مثل ” إرشيف السودان المنسي ” لصهيب قسم الباري “خرطوم أوفسايد” و “الست” ثم “الحديث عن الاشجار” والنجاح الهائل لفيلم “ستموت في العشرين” الذي حقق اختراقا مهما، ثم تتويج ذلك بالنجاح الكبير، فنيا وتجاريا لفيلم “وداعا جوليا” واستمرار عرضه لأشهر في عدة دول.
عبرنا الآن مرحلة النظر للافلام السودانية من باب التعاطف والحنو عليها كالطفل الرضيع، وغفران الاخطاء والهنات الصغيرة هنا وهناك، وصلنا مرحلة الفيلم الذي يمكن النظر إليه من مختلف وجهات النظر الفنية، والتعامل معه بجدية كاملة، قابل للتعرض للنقد، الموضوعي أو المتحرش، قادر على التعامل مع من يعجبه الفيلم أو لا يعحبه، أن تحبه كفيلم جميل وممتع، أو تلعنه مستخدما عبارات معمر موسى.، أن تقرأه فنيا، أو تستعين بالقراءات العقائدية والآيدلوجية، أو حتى أن تسخر منه بطريقة حسين ملاسي. هذا فيلم ناضج وكامل النمو يصدق عليه ما يصدق على الأفلام السينمائية المحترفة، والتي لن ينجيها احترافية طاقم العمل فيها من النقد، ولم تعد بحاجة للمجاملة والطبطبة و”اللولاي”.
يناقش الفيلم العلاقات الاجتماعية المعقدة بين الشمال والجنوب، بل أكثر تخصيصا، بين الإنسان الشمالي والجنوبي. صحيح أنه يتخذ الاحداث السياسية كخلفية، مثل وفاة الدكتور جون قرنق وما صاحبها من أحداث عنف، جدل الوحدة والانفصال، ثم إعلان الدولة الوليدة، لكنه لا يتوقف عندها كثيرا، بل يمضي للبحث في انعكاساتها على العلاقات الاجتماعية وبعدها الثقافي.
في الفيلم شخوص كثيرة من الشمال والجنوب، بينهم علاقات واختلافات، وهناك داخل كل أسرة قصة، سواء أسرة جوليا وسانتينو، أو أسرة منى وأكرم، لكن التركيز الاساسي على علاقة منى الشمالية مع جوليا الجنوبية، وهي العلاقة الاكثر تعقيدا. تعمل جوليا كعاملة منزل مع منى، لكنهما تحولتا لصديقتين، بينهما حوارات وأحاديث ونشاطات مشتركة، وبينهما إرث كبير ومعقد من علاقات الإنسان الشمالي بالجنوبي، ومشاعر متناقضة من المحبة والصداقة، والشك والريبة والعنصرية، ومجموعة عقد مرتبطة ببداية نشأة العلاقة وسببها، الذي بدأ في بداية الفيلم وكأنه سر خالص لمنى، ثم اتضح في النهاية أنه لم يكن سرا مخفيا عن جوليا، التي فاضلت بين الفرصة المتاحة لتربية وتعليم إبنها وبين الانتقام، فاختارت الخيار الاول.
داخل كل من جوليا ومنى ايضا تناقضات كثيرة، وتذمر من الحياة القاسية وما تفرضه من قيود اجتماعية، ويظهر هذا التعقيد في علاقة منى بزوجها أكرم، خليط من الحب والسيطرة والرغبة في التحرر منها واختلافاتهما في النظر للآخرين، وللمجتمع الجنوبي تحديدا. وتعتمل مشاعر متناقضة أيضا داخل قلب جوليا، محبتها لزوجها مجهول المصير،، محبتها لإبنها، وعنادها في أن تفتح باب القلب لحب جديد، ومشاعر الكره والمحبة التي تظلل علاقاتها مع منى والشماليين عموما. قالت أنها مع الوحدة ولن تصوت للإنفصال، وأنها بنت الخرطوم التي لا تعرف جوبا ولا ترغب في الذهاب إليها…ثم وجدت نفسها في الباخرة المتجهة من كوستي للجنوب، فقد ضاقت الخيارات، ولم يعد من معنى للعناد، هكذا أظن كانت تفكر جوليا في هذه اللحظات.
مرت الساعتان بدون ملل، ليست هناك إطالة أو مط للأحداث والحوارات، اللقطات سريعة ومعبرة، والممثلون الذين يقفون أمام كاميرا السينما للمرة الاولى يتصرفون ببساطة وتلقائية مدهشة، وكأنهم تمرسوا على هذا العمل.
كنت اشاهد الفيلم وفي نفس الوقت أتابع ردود فعل الجمهور الجنوبي، متى يضحك، ومتى يصفق، اكتشفت في المناقشات التي دارت مع أمجد وكردفاني، بعد العرض، أن هذا كان هاجسهما الأكبر. قالا أنهما توقعا كل شئ، حتى أن يغضب الجمهور من بعض اللقطات والعبارات، وأن يكون له رد فعل عنيف تجاههما، ربما بفعل تراكمات الغبن والإحساس بالظلم. تعامل الجمهور مع الفيلم كما ينبغي أن يتعامل مع الافلام السينمائية، رغم أن ثقافة مشاهدة الافلام في السينما غائبة عن أجيال كثيرة من الشماليين والجنوبيين. بعد نهاية الفيلم وقف الجمهور يصفق لابطال الفيلم لزمن طويل، ويبادلهم التهاني والتحايا.
بدا لي أن ميلاد الدولة الجديدة بعد الانفصال خلق حالة معادلة للإحساس بالغبن والظلم التاريخي لدى كثير من الجنوبيين، بحيث صارت الصور السالبة للعلاقات الاجتماعية والسياسية مجرد ذكريات، طبعا مع الحذر من التعميم. وإن كان تحليلي هذا صحيحا، فأظن أنه صارت هناك قراءات أكثر موضوعية لهذه العلاقات المعقدة، وربما تحتاج من المثقفين والمبدعين في الشمال والجنوب أن يستثمروا فيها لخلق علاقات أكثر صحة ومنفعة للمجتمعين في الشمال والجنوب.
أعرف ان زوايا المشاهدة للفيلم ستختلف، وسيثير الفيلم أسئلة كثيرة وملاحظات هنا وهناك، وقد يصدم البعض، لكن كل هذه علامات نجاح، فليس من واجب الفن أن يقدم الإجابات الكاملة، ولا ينبغي له، سيكفي الفيلم أنه قدم المتعة الفنية ووضعنا أمام اسئلة تحتاج للحوار والنقاش…وربما الجدل أيضا.
احتفت بنا جوبا بأكثر مما توقعنا، واسبغ علينا الاصدقاء هناك علينا من لطفهم الكثير، مثيانق وأتيم ودينق جوك، جلال بيتر وعادل فارس وعبد الحفيظ مريود الذي استقر فيها، مثل عماد ببو الذي اتخذ منها أيضا محطته الفنية الجديدة. هذه زيارتي الثانية خلال شهر ونصف، وآمل أن تتكرر قريبا، فهي تعطيك إحساس القرب من الوطن.

موقع المنبر
Logo