تحقيق المنبر24: بهاء الدين عيسى – أطفال دون سن الثانية عشرة من العُمر يتدرّبون على الأسلحة المصنوعة من الأخشاب ويصطفون في طابور غير مُعتادٍ، يُجسِّد انعكاسات الحرب الطاحنة على تلك الشريحة من المجتمع.
في حي الصالحة جنوبي مدينة أم درمان، رأينا هذا المشهد، وهي ثاني أكبر مدينة في السودان وتُشكِّل الجزء الكبير بولاية الخرطوم من حيث المساحة والكثافة السكانية.
المدارس في العاصمة السودانية مُغلقةٌ بالكامل، والظروف المُحيطة بالأطفال في غاية الدقة والخطورة، وصاروا في مرمى النيران وعرضةً للانتهاكات والقتل والاغتصاب.
على مدار أكثر من عام كامل، يعاني الأطفال من صدمة حرب 15 أبريل التي دخلت عامها الثاني في ظل صعوبة الحصول على العلاج النفسي وتفشي حالات التوتر والاختلالات ، ومع تلك المؤشرات والمعطيات جيل كامل مهدد بالدمار، مع غياب أفق الحل السياسي للحرب اللعينة.
مُعسكرٌ تدريبيٌّ
ذهبت إلى ضفاف النيل الأبيض على بُعد كيلو متر من حي الصالحة، دون أن أشعر، أجبرني فضولي الصحفي للتحقق، وهنا الصورة كانت تتحدّث عن نفسها، شيّد الأطفال معسكراً صغيراً في الرمال، تَـمّ حفر خنادق ضمن خطط التكتيك البسيط التي وضعوها بغية حماية أنفسهم من هجمات العدو، لحظت أيضاً هنا وهناك جوالات من “الخيش” تم ملؤها بالرمال كتروس واقية تصد الذخيرة، وداخل خندق رأيت القائد وملامحه صارمة دون بقية أقرانه يعطي التعليمات بحسمٍ، والمُثير في الأمر اللافت للنظر، الجدية في إنفاذ الخطط التدريبيّة دون أي تقصير.
خلال إحدى المناورات، اصطف الجنود “الأطفال” أمام القائد وتَـمّ تقسيمهم إلى مجموعتين: الأولى تمثل الجيش السوداني وما أُطلق عليهم بالمستنفرين “جماعة من المدنيين المتطوعين المساندين للجيش في المعركة”، والثانية أطلقوا عليها مُتمردي الجنجويد في إشارةٍ لقوات الدعم السريع.الأطفال يُقلِّدون أصوات المدافع والبنادق ويتحرّكون بطريقة منظمة أشبه بميدان المعركة “الحقيقيّة”، والقائد يحمل جهازاً خشبياً أشبه بهاتف “الثريا” أو اللا سلكي، ولك أن تتخيل المشهد، إنّه أشبه بدراما واقعية، بعد نحو نصف ساعة من المعركة، علت الأصوات وكأنّها لامست عنان السماء، تهليل وتكبير من قِبل الطرف الأول أي القوات المسلحة بعد هزيمة قوات الدعم السريع.
في أقل من خمس دقائق، أطلق القائد (محمد)، صافرته والقوة تصطف لرفع التمام، بعد يومٍ حافلٍ وملئٍ بالمفاجآت.
أحد اليافعين كان يهتف وينشد الأناشيد العسكرية، والتي دائماً ما يترنّم بها العسكريون خلال التدريبات فتبعث الحماس والروح بين الجنود، وجميع الأطفال يهتفون معه بأصواتٍ عالية.
مُستقبلٌ مُظلمٌ
ويقول الناشط في منظمات المجتمع المدني، نادر علي لـ(المنبر 24): نحن اعتدنا على المشهد بصورة يوميةٍ، وأعداد الأطفال في منطقة التدريب العسكري في تزايدٍ، كما أن إغلاق المدراس لفترة اقتربت من العام.
أدى إلى ظهور ثقافة العُنف والحرب، وحتى عند الهجوم على مقربة من منطقة الصالحة من قِبل أطراف النزاع، صار الأطفال يتعايشون مع الوضع ولا يخافون من سماع دوِّي المتفجرات والذخيرة وضربات الطيران العسكري، وفقاً لإفادات نادر علي.
ويعتقد محدثي إن الخطير في الأمر، الصغار صاروا يناقشون الكبار عن الأوضاع العسكرية وموقف الجيش السوداني من المعركة، كما اعتدنا على مُشاهدة فنون تصنيع السلاح من الأخشاب، فنرى المدافع والبنادق والنِّبال تَـمّ إعدادها ضمن الاستعدادات لمواجهة العدو.
تمييز أنواع الانفجاراتفي ضاحية الصحافة جنوبي العاصمة السودانية “الخرطوم” ومع أصوات الانفجارات العنيفة التي تقع على بُعد كيلومترات تجاه سلاح المدرعات، الذي يُعد من أكبر الوحدات العسكرية التابعة للجيش السوداني، سألت الطفل ذي العشر سنوات “محمد الفاتح”، هل أنت خائفٌ من صوت الانفجارات؟.
قال لي بنبرة عالية: “لا ده صوت مدفعية وليس طائرات، في بداية الحرب كنت أخاف والآن الأمر عادي، صمتّ هنيهةً متعجباً، وقال لي الفاتح: “نعم أعرف أُميِّز صوت البنادق والمدافع والطائرات ولا أخاف من أيِّ شيء، نحن نلعب الكرة بصورة عادية مع سماعنا لأصوات الرصاص”، وأشير إلى أن الأسبوع الأول للحرب كان ذات الطفل يولي هارباً عند سماع طلقات وليس دوي انفجارات بهذا العنف المُرعب.
نصف مليون مفقود
وذكر الأمين العام لمجلس الطفولة في السودان – دكتور عبد القادر عبد الله أنّ مئات الأطفال قُتلوا جرّاء الاشتباكات العنيفة أو بسبب الانتهاكات والأمراض، بينما تُهدِّد المجاعة 6 ملايين و750 ألف طفل بالبلاد.
وقال الأمين العام لمجلس الطفولة، لـ(المنبر 24) إنّ اعداداً كبيرة من الأطفال نزحوا من الخرطوم دون رفقة أسرهم إلى ولايات (سنار، الدمازين، النيل الأبيض والشمالية).وإنّ هناك أعداداً كبيرة منهم اضطرت لامتهان التسول، مما يُعرِّضهم لأنواعٍ مختلفةٍ من العنف، ورغم أن مجلسه لا يملك إحصاءات لأعداد الأطفال المشردين دون رفقة أسرهم، توقّع أن يبلغ العدد أكثر من (500) ألف طفل مفقود في الولايات التي تشهد العمليات القتالية بين الجيش والدعم السريع.
وحسب الأمين العام لمجلس الطفولة، فإن ثقافة العنف تفشت في ظل الحرب والفوضى واللا قانون والانفلات تلقي بظلالها على الأطفال، وصاروا يُقلِّدون أصوات الانفجارات وأصوات السلاح، متناولاً أيضاً انعكاسات سيئة في الجانب النفسي والسلوكي والتصرُّفات.
وكشف د. عبد القادر، عن خُطة إسعافية عاجلة تم إعدادها، يعملون من خلالها مع الشركاء الدوليين لمعالجة ما يمكن إنقاذه وتقليل آثار الحرب.
انتهاك القوانين
وتقول د. ثريا إبراهيم “منظمة إعلاميون من أجل الأطفال”، إحدى منظمات المجتمع المدني المحلية، إنّ الآثار الصحية والنفسية للحرب كبيرة جداً، وقالت إنّ عدم الغذاء الجيد ينعكس على صحة الأطفال وسلوكهم.
وتناولت في حديثها لـ(المنبر 24) مشاعر، الخوف والقلق وأصوات الرصاص، كما ربطت بين انفعال الخوف والقلق المستمر للأسرة على الطفل، وكثيراً ما يسمع الأطفال عن سقوط دانة “جسم مُتفجِّر” وهم نيام، بالتالي هذا الوضع يُترجم على مستوى لعب الأطفال.
ومن خلال التطورات المحيطة بها والحديث الدائر حول الحرب سيتحوّل الطفل إلى سلوكيات وممارسات يومية، كما أشير إلى أنّ الغذاء الجيِّد يجعل الطفل في نمو طبيعي وتفكير طبيعي وأي نقص سيؤدي لجعل الطفل عدوانيّاً، وإغلاق المدارس يضع الأطفال في حالة شرود والخوف من المصير المجهول!!.
وتُلقي ثريا باللائمة على طرفي الحرب، لجهة أنهما لم يلتزما بالقوانين الخاصة بالأطفال، المحلية والدولية، حتى أطفال دار الرعاية بالخرطوم “المايقوما” من فاقدي السند تمّ ترحيلهم من الخرطوم إلى ود مدني.
وعندما تفجّرت الحرب في الثانية تمّ إجلاؤهم من خط المواجهات العسكرية بصعوبة كما أشارت لعدم وجود الدعم النفسي لفئة الأطفال في المناطق الملتهبة ومعسكرات النزوح.
وقٌود الحرب
في تقرير لها حول أطفال السودان، أفادت منظمة “اليونسيف” أن طفلاً من كل اثنين في السودان يحتاج لدعم إنساني، ونوه التقرير أن هذا رقمٌ مُروِّعٌ، كما رأت أن الآباء أيضاً باتوا يحتاجون إلى الدعم لبناء أساس قوي لأطفالهم، وأعلنت أنها تعمل مع الحكومات لمساعدة مقدمي الرعاية من الحصول على الأدوات، والوقت الذي يحتاجونه لمنح أطفالهم أفضل بداية لحياة جديدة في ظل ما عايشوه أثناء الحرب الطاحن.
ودفع إغلاق المدارس إلى انقطاع آلاف التلاميذ عن التعليم، حيث تعطّل قطاع التعليم كلياً في ولاية الخرطوم وولايات دارفور والجزيرة جرّاء الحرب، فضلاً عن المخاوف الأمنية، وكان أطفال السودان يعانون على المستوى التعليمي قبل اندلاع الحرب.
إذ يشير تقرير منظمة اليونيسيف الصادر في سبتمبر 2022 إلى أن نحو 6 ملايين و900 ألف طفل سوداني أي كل طفل من كل ثلاثة أطفال في سن التعليم غير مُلتحقين بالمدارس.
صٌورة قاتمة
وأكدت رئيسة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) في السودان في 12 يناير من العام الحالي أنه إذا استمرت الحرب بين الجيش و الدعم السريع فإن “كارثة جيل كامل” ستحدث في البلاد، أولى ضحاياها 24 مليون طفل سوداني.
وقالت مانديب أوبريان إن “النزاع في السودان يعرّض للخطر صحة 24 مليون طفل وبالتالي مستقبل البلاد، ما قد يترتب عنه عواقب وخيمة للمنطقة بأسرها”.وأضافت “مستقبل البلاد في خطر، فقرابة 20 مليون طفل لن يذهبوا إلى المدرسة هذا العام إذا لم يكن هناك تحرك سريع”.
وتؤكد أوبريان أن “14 مليون طفل بحاجة لمساعدة إنسانية عاجلة” في هذا البلد البالغ عدد سكانه 48 مليون نسمة، مشيرة إلى أن “ملايين الأطفال السودانيين معرضون للموت والإصابة والتجنيد والعنف والاغتصاب”.
اضطراباتٌ نفسيّةٌ
ويقول محمد عثمان والد أحد الأطفال معاناة، إنّ الحرب بالنسبة لنا كانت من وجوه مُتعددة، فأولادنا أصبحوا يعانون من اضطرابات نفسية وشعور دائم بالخوف وقلق، وفي أحيانٍ كثيرة تغيّرت سُلوكياتهم من الطفولة البريئة إلى العنف المُفرط، وهناك حالات اكتئاب في بعض الأحيان.
ويضيف محمد: أنا حالياً في منطقةٍ نائيةٍ لا يوجد بها اختصاصي طب نفسي، ومحاصر أيضاً بنيران المواجهات، أحاول بقدر المستطاع لعب دور المعالج النفسي ونأمل النجاح في ذلك.
ويُعتبر الأطفال أضعف الحلقات التي تتعرّض لانتهاكات خلال الحرب في غمارها، تطالهم أفظع الأعمال العدائية، ويتعرّضون لمخاطر لا تُحصى ولا تُعد، ويُحرمون من أجمل أيام الطفولة، بجانب الصدمات النفسية بسبب الحرب التي تفجّرت في السودان صبيحة 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع.
والتي تسببت في حصد الآلاف من المدنيين ونزوح نحو أكثر من 8 ملايين سوداني ولجوء أكثر من مليون آخرين وفقاً لتقارير رسمية صادرة عن وكالات الأمم المتحدة، والتي أوضحت أيضاً بحسب متحدث رفيع باسم الأمم المتحدة بأنّ (25) مليون سوداني بحاجة إلى مساعدات عاجلة خلال العام الحالي 2024م.