نمش على وجه الذاكرة
قبيل زيارتك بلحظات كنت فخورة بنجاحي الذي بذلت لأجله مجهودا ضخما لضبط إعداداتي على وضع الاتزان ، ألقيت كل شيء في قعر بئر مظلم ولعلني أفلحت بامتياز في إسكات أنين الذكريات حتى توقف كل شيء تماما عن محاولة جري إلى الحنين أو إلى ذلك الخيط اللامرئي الذي لايحس ولايعوض هو انكسار ما يختبئ خلف كل هزيمة تماما ( كما يختبئ البستان في الوردة ) أذكر وأنا دون الخامسة كنت أتباكى بصوت يعلو دون توقف بحثا عن استعطاف جدي المحب الذي يدس في يدي عيدية بديلة عن تلك التي فقدتها وأنا ألهو مع أقراني لأصمت لبضع دقائق ثم أعود لسيمفونية البكاء المشروخة تلك وبعد استفسار جدي وهو يمرر يده الرحيمة بحنو على جبيني لتهدئتي أجيبه ببراءة طفولية .. ولكنها ليست عيديتي التي فقدت!
بزيارتك هذه تسلقت الذكريات المدفونة في قلبي مثل بذور نبات اللبلاب الشرس الذي يتشابك فجأة ويتسلق ليسد البصر ويوقظ البصيرة .. أعادتني زيارتك مرة أخرى إلى بحري إلى حينا الشعبي إلى شارع منزلنا الذي يعج بالمارة إلى دكان والدتي الذي تجلس عليه منذ الصباح الباكر وحولها طيف من النساء والرجال يصمت همسهم إذا اقتربت ويبادلونني التحايا بشكل شبه رسمي وأحيانا يتصيدني بعضهم محاولين جري لنقاش سياسي دائري فأتفلت منه بإجابات مقتضبة لأن موعدا مهما في إنتظاري .. اشتقت إلى ذلك المشهد الروتيني المتكرر بطله جارنا الترزي الذي يقضي جل وقته في الاستلقاء تحت ظل الشجرة الكثيف ثم ينهض للنظر فيما أريد متثاقلا بعد أن يطلب مني التأكد بأن الكهرباء موجودة !.. ، اشتقت إلى رائحة الخبز عند الفجر وصوت الباعة والجدل الروتيني مع موظفي السوبر ماركت في الأسعار ..، اشتقت حتى لشجاري الدائم معك .. لتأخر الزملاء عن مواعيد العمل ولانقطاع الكهرباء المفاجئ قبيل اكتمال مونتاج فيلم سهرنا على نجاحه طويلا .. اشتقت حتى للقطط التي كنت دائمة التأفف من وجودها.. و لتلك اللافتات الصغيرة المعلقة في أماكن الشرب والطعام ( بالرجاء حسن التعامل مع قططنا الصغيرة) اشتقت لشجيرات النخيل والليمون والجوافة هل لازالت خضراء ؟ هل وجدت من يعتني بها بعد أبي؟ .. واشتقت لحد الاختناق لغرفتي ترى من سكنها بعدي؟! وهل يعلم القاطن الجديد السر الذي بيننا ؟.. حجم الانتصارات التي شهدتها هذه الجدران الصامتة ؟.. أم سيل الانكسارات التي احتضنتها ؟..هل يعلم أي دموع سكبت هنا ؟ وأي قصص وقصائد كتبت ؟ كيف حال كتبي التي أعدت قرائتها مرارا؟ وتلك التي تنتظر ؟ ماذا عن أسراري المعلقة على مشاجب الهواء .. عن جسدي اللامرئي الذي لازال هناك ؟ ماذا عن كل شيء ؟، ترى هل يعود ؟ هل يعوض ؟ هل ينسى ؟ هي أستطيع نسيان مكان يسكنني والتأقلم مع مكان آخر أسكنه؟ !