د. عبد الله علي إبراهيم
(كنت رغبت في إشراك شباب الكتابة والفكر في تجربة الحزب الشيوعي في التعاطي مع engaging الدين بعد حل الحزب في 1956. فخرجنا بغصة من ذلك. ونظر أستاذنا عبد الخالق محجوب في المسألة لما رأى أننا لم نملك إزاء تلك المحنة سوى القول إن الكيزان وأزهري استغلوا الدين لمأربهم. وعلى صحة هذا القول إلا أن أستاذنا لم يرغب في صرف الأمر “كاستغلال للدين” وكفى، أي أنه رفض الاكتفاء بما يُعرف ب “الأداتية” وهي التغاضي عن كثافة الحضور الديني في مجتمعنا واختصاره في أشرار يطوعونه لمآربهم فلا تملك مع الدين ومعهم بالنتيجة سوى لعنهم كما تلعن إبليس.
ووجدتني اتبنى خطة أستاذنا وأكاد اتفرغ لها منذ عقود. ووجدت في محاكم نميري الإيجازية (1984) سبباً للاشتباك مع من عدوها مجرد أداة لسفاح يريد إطالة عمره في الحكم وبس. وتوافرت على هذا المشروع البحثي لأنظر لما وراء استغلال نميري للدين، أي إلى كثافة حضور الدين فينا بما يجعل استغلال نميري له احتمالاً في شرطه وزمانه.
أعرض أدناه مشروعاً بحثياً أعيد فيه النظر في محاكم نميري للعدالة الناجزة طالما كنا في سيرة نميري وميل البعض لمراجعة عصره عسى أن نقف على نفع منه يُجزى به. والمشروع بحاله هذا مستمد من الفصل الرابع من كتابي “هذيان مانوي: تفكيك القضائية الاستعمارية والصحوة الإسلامية في السودان، 1898-1985، دار برل بهولندا، 2008، (بالإنجليزية).
حاولت في هذا الفصل تجاوز مفهوم “الأداتية” الذي تواضعت الصفوة في تفسير تحليل لفة نميري للدين ومحاكمه التي تأسست عليها. والأداتية هي أن يجعل الحاكم وغير الحاكم من الدين مطية لأغراضه السياسية والدنيوية. وتُوجز المفهوم عبارتنا “استغلال الدين”.
لقد أعفانا مفهوم الأداتية من الغوص في نصوص وديناميكية الدين كما ينبغي لمن تولى أو سيتولى شعباً كثيره مسلم. فكل الإسلام “سياسة” في منظر الأداتية ولا يقع عليه إلا كل مستغل أشر. فالدين بحسب هذا المفهوم مطية للصفوة ولغمار الناس “الإسلام الشعبي” وهو الذي خالطته “الوثنية الأفريقية” في رأي ترمنغهام فلا نفع منه ولا خطر.
سألت نفسي: هل يواتي الدين كل مستغل في كل زمان ومكان أم أن هناك أشراطاً تقع في المجتمع فتزكي لأهله دينهم كمفتاح للفرج فيستصحبها “المستغل”؟ ونظرت حولي في الولايات المتحدة فوجدت من أراد استغلال الدين وتوظيفه مثل منكرو نظرية التطور، أو مثل القاضي الذي أراد الحكم بالوصايا العشر. ولم ينقاد لهم الدين لأن المجتمع لم يتهيأ لهم. وربما تهيأ يوماً.
لمّا اكتفينا من تديين الدولة بمفهوم الأداتية الذي يقصر الدين على صفوي غيتون (وهو مستغل الدين في عرف الناس مثل الذي صلى وصام لأمر كان يقصده) غاب عنا تديين المجتمع الحر في دورة من دوراته ومطلبه للعدل والسوية من بين صفحات دينه. وعلى ما اشتهر من عبارة ماركس عن الدين أفيون الشعوب (الأداتية) إلا أن له كلمة منسية هي قوله إن الدين روح عالم بلا روح.
مشروع البحث:
تريد هذه الورقة رد الاعتبار البحثي لتجربة الرئيس نميرى في تطبيق الشريعة وتأسيس مفهوم “العدالة الناجزة” ومحاكمها خلال السنوات 1983-1985 (الكباشي 1986، 1987). ففي سبتمبر 1983 أعلن النميري الشريعة قانوناً للبلاد بديلاً للقوانين الوضعية المستمدة من القانون الإنجليزي. وتم ذلك الإعلان في ذيول إضراب للقضاة توج نزاعاً طويلاً بين الرئيس والقضائية حول قضايا استقلالها (خالد 1985، 1986، 1990، 1993). وتجسد ذلك النزاع في مفهومين للعدالة. زكى النميري مفهومه للعدالة الناجزة وكان بمثابة نقد للقضائية التي تراكمت القضايا أمام محاكمها فأضجرت المتقاضين مستعصماً بالقول إن تأخير العدالة حجب للعدالة. ومن الناحية الأخرى، تمسك القضاة، الذين ردوا تأخير العدالة لضآلة المنصرف عليها، بمبدأيهم أن العدالة المستعجلة مثل الظلم سواء بسواء. وبتحكيم الرئيس للشريعة، أحال القضائية القديمة للاستيداع. وأنشأ قضائية جديدة تحررت بزعمه من عقابيل الاستعمار تسرع محاكمها الناجزة بالأحكام لبسط عدل الشريعة بواسطة قضاة عدول لا مجرد قضاة (زين 1983).
المهنيون والسياسيون المنتقصون من تجربة النميري أوسعوا قانونها ومهنيتها نقداً جعل محاكمها سخريا تحاشاه حتى الباحثين ونبذوه. وأكبر مآخذهم عليها أنها كانت أداة في يد طاغية رأى أطراف حكمه تُنتَقص فطلب تطويله باستغلال الدين. ومثل هذا الطعن في المقاصد مما عرف مصطلحاً ب”الأداتية” أو “التخليب”. فوصم نقاد النميري تلك المحاكم بخيانة المهنة لخضوعها للحكومة، واقترافها تجاوزات فاحشة مثل إعدام المصلح الإسلامي المسن محمود محمد طه، واخضاع غير المسلمين لحدود الشريعة (النعيم 1986).
وتسلم الورقة بصحة أكثر هذه الانتقادات التي جعلت تلك العدالة مجرد مخلب سياسي لنميري حتى قال محمد زين إن جوهر محاكم النميري هو العداء للقضائية “المشاغبة” القائمة آنذاك (1983). إلا أنها تذهب أبعد وتناقش أسلمة الرئيس نميرى للدولة في ضوء الجدل الدائر حول الجريمة والعقاب الذي اجتاح القضائية والمجتمع بأسره في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. وسنقف بخاصة عند “الغضبة للعدالة” التي سرت في ذلك الخطاب المؤرق بقصور الدولة عن إنفاذها، وكذلك عند تحول الناس بفلسفة العقاب من الإصلاح والتهذيب الحداثي إلى السن بالسن الدينية.
وسنحلل خطاب الجريمة والعقاب والغضبة للعدل على خلفية الاقتصاد السياسي الذي تولد منه. وعُرف بين الباحثين بـ “اقتصاد المغتربين” (سيد أحمد 1996). وهو اقتصاد اكتنف 3 بليون دولار في أعوام 1984-1985 هي تحويلات 650000 سوداني مهاجر للجزيرة والخليج بإحصاء 1990. وأفرخ ذلك الاقتصاد جرائمً استجدت وشاب لهولها الولدان دارت حول خيانة الأمانة والاحتيال. ورأى فيه المسلمون “باطلاً”. وهذا منشأ لوصفنا له ب”اقتصاد الباطل” بالنظر إلى وقائع محكمة جرت في 1979 استشهد المدعي فيها بالآية: “وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” من فرط “كفرانية” الجريمة المعروضة على المحكمة. وذهب اقتصاد الباطل بعقول الناس وأنكر الناس زمانهم. وكانت الدولة أكبر ضحايا هذا الباطل. فقد أفرغها المجرمون من وظيفتها وشاراتها بتزوير وثائقها المختلفة. وتحرج من ذلك كله غمار المسلمين وفروا إلى دينهم في سياق صحوة دينية متعددة الوجوه.
يطعن في رجاحة خصوم النميري، الذين وصفوا عدالته الناجزة كمجرد “تخليب” للدين، في دلالة جعله أداة لغرض دنيوي سياسي، أن التخليب هو نفسه بحاجة إلى تبيين ناهيك أن نفسر به الصحوة الإسلامية. فهو من مصطلح ثقافة الصفوة غربية الهوى، بما فيها الإسلاميون أنفسهم، ومحصلة من حروب هوياتهم. فحرام على الدين عند أكثرهم أن يطأ ساحة السياسة وإلا كان في “حالة ت” تسلل”. ومنعاً لقصر صحوة المسلمين عند صفوتهم رغب ركس أوفاهي، المؤرخ للسودان، أن يقع على وصف للصحوة، وعدالة النميري الناجزة فصل كئيب من فصولها، يذهب في تفسيرها إلى أبعد من “ثقافة ونزاعات وتواريخ الصفوة غربية المنشأ” (أوفاهي 1996). والسبيل إلى ذلك أن ننظر إلى جذورها بين المسلمين كطرف أصيل في الإحياء الإسلامي لا موضوعاً له.
ونواصل