عبد الله علي إبراهيم
واحدة من “احتيالات” صفوة العلمانية دون الخوض العصيب في شأن الدين والدولة رمي دعاة أوبة الدين للدولة ب”استغلال الدين” وأنهم، والعياذ بالله، من شيعة “الإسلام السياسي”.
وفي ذلك هروب للأمام مما تواضعنا عليه بعد حل الحزب الشيوعي في 1965 أن استغلال الدين هو موضوع للبحث لا للإدانة وأن الإسلام السياسي مما يدور محركات التحري في الذهن لا اللعن أو الاشمئزاز. وأزال الفكر المراجع للحداثة منذ عقود هذه “الأحابيل” التي يستتر بها الحداثيون دون التعاطي مع الدين ودعاته على قدم الندية.
وقامت الحداثة أصلاً على عقيدة أن الدين خرافة وأنها آيلة للتبخر إلى السماء ولم يبق سوى انتظار جثته في النهر. ولم يأت الدين على توقع الحداثيين فراجعوا أنفسهم وأخذوا في التعاطي مع ظاهرة التجديد الديني، الإسلامي في حالنا، كمشروع مستحق للبحث والنقاش لا الترويع. وكان هذا نهجي في كتابة هذا المشروع البحثي عن رد الاعتبار لمحاكم العدالة الناجزة لا من حيث عدالتها، فهذا مطلب أبله، بل من حيث أنه لن يستقيم لنا فهم ما بنا والدين إلا باستعادتها إلى مجرى البحث. لقد قتلناها بالإدانة السياسة واسقطنا النظام الذي خرجت من رحمه. ومن ظن هذا ظفراً لا قيام لها بعده خادع غشاش.
ولبلوغ الغاية في توطين الصحوة الإسلامية كسياسة مشروعة، لا حالة تسلل للدين فيما لا يصلح له، أخذنا بأفضل النظرات المستجدة في الشاغل الفكري المعاصر حول المجتمع والسياسة. فبعد إهمال غريب للدين ها نحن نرى الباحثين يستردونه في تحليل الحركة الاجتماعية كقاعدة مشروعة لنقد المجتمع في حين كان فيما مضى موضوعاً للنقد أملاه “العقل” وزينه (لنكولن 1993). و
هذا التحول من نقد الدين إلى نقد المجتمع من زاوية الدين هو الذي فوج المسلمين ك”مسلمين” على المسرح السياسي (برنر 1993). ومتى استرددنا الهوية الدينية لجمهرة المسلمين نظرنا في بواعثها وجدلها. ومما وجدته صالحاً لغرضي مفهوم “الهوان الاستعماري” الذي ورد عند بازل ديفدسون، المؤرخ لأفريقيا. فمن رأيه أن الحداثة الاستعمارية أهانت حس المسلمين بالدماثة والأصول. فصاروا أذلة وطأهم الكفار بعد أن كانوا أعزة. ومن أطرف ما في المفهوم أن هذا الهوان يصيب عامة المسلمين أكثر من خاصتهم. فبوسع الأخيرين، مهما يكن، التعاطي مع الاستعمار الذين هم صنع يديه (ديفدسون 1992).
وسنرى أن أهدى السبل لفهم الدين أن ننظر إليه ككيان مستورط في السياسة والتاريخ وليس كنظام مغلق من الرموز المقدسة. ولفهم الصحوة على هذا الضوء ستحللها الورقة كظاهرة لا فكاك منها من عقابيل ما بعد الاستعمار في الدول التي تحررت منه. وهي عقابيل جرى تعريفها ب” الشغل الذي لم نفرغ منه في تفكيك الاستعمار” (سميث 1999).
وعليه سيفحص البحث الصحوة الاسلامية في السودان كمنتج من منتجات صراع مختلف القوى السياسية والفكرية التي حاولت استثمار البرزخ المهني في القضائية الثنائية التي تغلب فيها القضاة المدنيون على قضاة الشرع. ونريد للبحث، بأخذنا للإسلامية كحركة مشروعة لتفكيك الاستعمار، أن يكون قراءة جذرية مبتكرة لها كاستجابة لانفراط مركزية الغرب (سكوت 1995).
سنتوقف في بحثنا عند السؤال: هل كانت العدالة الناجزة وأسلمة الدولة فرضاً تاريخياً لا مهرب منه، أم أنه كان مجرد احتمال من بين احتمالات أخرى للتاريخ؟ وسنأخذ في تحليلنا لأسلمة النميري للدولة بمفهوم “موسيقى الدين” وهو وصف ماكس فيبر لمنهج صديقه جورج سمل في تحليل الظاهرة الدينية. قال فيبر إن سمل يبزه في أن له أذناً صاغية لصوت أو موسيقى المتدينين بينما خلا هو منها. ففيبر يدرس التجارب الدينية بتعاطف إلا أنه، شخصياً، وخلافاً لسمل، لا سعة له للدين. فسمل تمتع بموسيقية للظاهرة تركزت في تفرقته بين التقوى والدين. فالتقوى عنده هي الحساسية للدين، أو السعة له. أما الدين فهو ما يتعين في هيئات ذروتها الدولة مثل أسلمتها. فالتقوى خصلة روحية تسبق تديين الدولة (سمل 1997). فالغضبة للعدالة، التي انفعل بها الناس، وغمارهم بوجه أخص، في الثمانينات، تقوى لا تجد سبيلها إلى هيئة الدولة في كل حالة. فقد تنجح السياسة في ملاقاتها في طور التقوى قبل تسييسها في مثل “أوبة الدين إلى الدولة” في عبارة شائعة للإسلامي حسن الترابي. ومتى لقيناها قبل تسييسها تكفل التشريع القانوني العادي بمقتضياتها.
وهذه ملاحظة القانوني بيتر نيوت كوك. قال إن إشكالنا في السودان من جهة التشريع أن الإصلاح القانوني، الذي كان بالوسع استدراكه بقوانين محسنة موضوعياً وإجرائياً، سرعان ما ينقلب إلى “ثورة قانونية” تهجم على هوية التشريع نفسه. ومن غرائب الصدف أن عهد نميري في أواخره شهد الثورة القانونية تخرج من رحم الإصلاح القانوني. فكان مجلس الشعب بقيادة الإخوان المسلمين يناقش إصلاحاً قانونياً لمطابقة القانون الوضعي بالشريعة. وكان ذلك التزام نميري للإخوان ليدخلوا في دين المصالحة الوطنية أفواجاً. و
بينما هم في ذلك الإصلاح، الذي لم يجدوا سوى قوانين لا تتعدى أصابع اليد مخالفة لصريح الشريعة، خرج عليهم نميري بقوانين سبتمبر 1983. فجعلها ثورة قانونية بينما كان اكتفى أحذق دعاة الحاكمية لله بإصلاح القانون بتشريعات محسنة موضوعياً وإجرائياً.
ونواصل