د. عبدالله علي إبراهيم
برّأ “الدعم السريع” حتى من فض اعتصام الحراك الشعبي الدموي عند القيادة العامة للقوات المسلحة في يونيو (حزيران) 2019. فقال إنه على رغم أن ذلك الفض مما نسبه الرأي العام لهم إلا أن من نفذه حقاً هم الفلول. فنشروا فيديوهات تظهر جنود “الدعم السريع” يدوسون بأحذيتهم على رؤوس الثوار وسط الجثث المتناثرة في الميدان، بينما لم تكُن بأيديهم يومها سوى عصي. ونسب، من جهة أخرى، الجرائم التي يحاسب عليها “الدعم السريع” إلى متنكرين في زيهم المبذول “لمنظمات الإسلاميين شبه العسكرية” التي ارتكبت جرائم النهب والسلب والاغتصاب لتوزرهم كسلاح في الحرب الإعلامية والنفسية وتعبئة الشعب ضدهم.
وهكذا أضاع العفيف مغزى عبارة سيدنا علي عن عار من غزا آخر بيته والتي هي مدار في نظرية الإرهاب المعاصرة، في البحث عن متهم غير ما اتفق للرأي العام، وهو “الدعم السريع” من فرط احتيال الفلول. وجاء بهذه النظرية كتاب حديث لمارك سومرز، أستاذ القانون بجامعة مينيسوتا ومستشار الأمم المتحدة في حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، عنوانه “نحن المقاتلون الصغار” (جامعة جورجيا للنشر- 2023). وجاء فيه بنظرية كارولين نوردستورم، أستاذة علم الأنثروبولوجيا بجامعة نوتردام الأميركية، ومذلة التجريد من الدار في اللب منها. فقالت نوردستورم إن صناعة الإرهاب مما لا يراد منها قتل الناس بل ترويعهم، فإذا كانت الإرادة السياسية للناس هي هوية صميمة ملازمة للذات، فقتل “الجسد” لن يهلك ديناميكية الإرادة السياسية.
وعليه، فإن صناعة الإرهاب قليلة التركيز على قتل الجسد الفيزيائي بقدر ما تريد من القتل إرهاب كل السكان في ما يعرف بـ”الإذعان ترويعاً”. فبينما تشمل حرب الإرهاب “القتل الاستراتيجي”، إلا أن سلاحها الفاتك هنا ليس قتل الجسد الفيزيائي، فمطلب هذه الحرب أن تزلزل الناس عن الدعائم التي أعطت حياتهم معنى في ما قبل، فيضرب الهرج بينهم بالتعذيب والتخريب والابتذال الجنسي والتجويع، فتخور عزائمهم من هول انفراط عالمهم المعتاد. فأنت لا تسيطر على الناس عن طريق التخويف بالقوة، ولكن عن طريق الترويع بها. وجاءت نوردستورم هنا للمعنى القديم لسيدنا علي، فقالت إن هجوم الإرهابي على الناس في بيوتهم هو تفكيك لجوهر النواة الإنسانية، فتحويل البيت إلى ميدان معركة، مما يسهم في عملية التجريد من الإنسانية لأنك “لن تعود إنساناً إن لم تملك مأوى”. وليس من موضع يؤتى منه أمان الناس اليومي الأساسي مثل التجريد من المنزل ضمن أشياء أخرى. فالغرض من الإرهاب هو الفصل بين الناس وإنسانيتهم، وتهديد الأمن الوجودي لكل المجتمع. فمتى ما تحقق نزع الإنسانية عن جماعة عن طريق الإرهاب، فبالوسع الآن “تدجين” الإنسان مثل أي حيوان آخر.
فإذا تركنا الاحتلال الفعلي لدور الناس جانباً، لرأينا كيف وظفته “الدعم السريع” لدعك الإذلال في خاطر أهلها. فخرجت نساء منسوبات لتلك القوات بقول صريح عن هوان من “عردوا” في الآفاق جبناً من دون حماية أرضهم وعرضهم. وحوّل الدعامة، في مصطلح سائغ، كل بيت احتلوه إلى معرض لصحة عقيدتهم من ثورتهم ضد الفلول الذين تنعموا بالتطاول في البنيان وأفسدوا فساداً استحق عتاب السيف.
ومن مفردات زلزلة المعنى الوجودي حرمان أحياء حاصروها من الدفن في المقابر، مما اضطر أهل الموتى إلى دفنهم إما في حيشان دورهم أو في ميادين المدارس، مما ينزع حتى سكن الموت عن الناس، بل ورد قبل أيام إطلاق “الدعم السريع” النار على جماعة من سكان ود العشا عند النيل الأبيض من فوق مئذنة مسجدها. ولمغص أهل الدور المنهوبة يعرض بعض الدعامة رتلاً كثيفاً من السيارات محملاً بالمنهوبات من دور المدينة من ثلاجات وتلفزيونات وأبواب وشبابيك وكثير غيرها متجهة غرباً إلى مناطق مسلحي “الدعم السريع”. فلم يتحول البيت إلى معركة فحسب، بل دخل في فقه تغنيمه إرهاباً.
شاهد| زواج دعامي بالخرطوم في ظل الحرب بالسودان الآن وهو من قوات الدعم السريع (youtube.com)
IbrahimA@missouri.edu