بقلم : أ. د. عبد الله علي إبراهيم
في حين ينعقد الاجتماع الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة يجد السودان أمره معلقاً بالمنظمة كما لم يحدث من قبل على أنه زبون قديم لها منذ التسعينيات. فجرب من قبل أن يكون بعض أهله في دارفور مثلاً تحت حماية الأمم المتحدة. ولكن لم يسبق للعالم أن اتفق له وجوب تجييش قوة لحفظ السلام لحماية جملة المدنيين فيه كما أوصت لجنة تقصي الحقائق عن حربه التي استمع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتقريرها خلال السادس من سبتمبر (أيلول) الجاري. كما لم يسبق للسودان أن كان إطعام غالب شعبه وإيواؤهم بيد المنظمة. فاضطرت الحرب الدائرة في جنباته إلى مغادرة الملايين من أهله بلداتهم بما وصف بـ”النزوح الأكبر عالمياً”، ووصفت المجاعة التي جاءت بأثر هذه الزعازع بـ”أنها الأسوأ في العالم لـ40 عاماً خلت”.
وليس من الفأل الحسن أن ينعقد أكثر أمرك على منظمة اتفق كثر على أنها ليست على ما يرام في يومنا.
ويكفي أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هو من كاد ينعاها للعالم في مقابلة كئيبة مع فريد زكريا خلال الأسبوع قبل الماضي. فلم يجد ما يقوله لفريد الذي عدد له سلبية المنظمة حيال الحرب في أوكرانيا وغزة سوى بوجوب التمسك لا يزال بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة في التعايش السلمي. وخلص إلى أن المنظمة عاجزة وتحتاج بعد 79 عاماً من قيامها إلى الأخذ بالمستجدات في العالم بقوة من مثل التغيير المناخي والذكاء الاصطناعي والإفلات من العقاب. وبهذا تتناغم مع عالم مختلف وصفه بـ”المألوف الفوضوي الجديد”.
ولآخرين آراء موزونة عن المنظمة. فهم متفقون على أنها على مفترق الطرق ولكنها، على خلاف سابقتها عصبة الأمم، صمدت للحادثات وسجلت نجاحات عديدة كأكبر مؤسسة للتعاون الدولي، غير أنها الآن محاصرة مع ذلك بتحديات جمة من ضعف تمويلها، وتفاقم بيروقراطيتها، والشقاق بين الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن. وتضعف جميعاً من فعاليتها. وقال أحدهم من حسن الظن بها أن الناس يتكلمون عن شلل الأمم المتحدة ولكنهم لو رجعوا لأعوام الحرب الباردة لوجدوها غشيتها فترات تعطل عمل مجلس الأمن فيها تقريباً بالكلية للخصومة الأميركية السوفياتية. فلم يُمرر في مجلس الأمن سوى قرار واحد عام 1959، وكان استخدام “الفيتو” هو الهواية المفضلة. وأضاف، أقله أن مجلس الأمن لا يزال يجتمع إلى يومنا مهما قلنا عنه، ولا تزال منظمات الأمم المتحدة للغوث حجة لا يعلى عليها في أن المنظمة قامت لتبقى.
واتصل بحال الأمم المتحدة المشفق ضربة لازب، نقاش حول دور الولايات المتحدة الأميركية فيها بوصفها سادن النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي كانت الأمم المتحدة عنوانه الأكبر. وجاء الرئيس جو بايدن في كلمته بالأمم المتحدة بمجاز صالح لتوصيف منزلة بلده في هذا النظام العالمي. فاسترجع أبيات مشهورة من قصيدة “الرجعى” للشاعر ويليام ييتس:
الأشياء تتداعى
ولم يعد المركز يقوى على لملمتها
والعنان مطلق للفوضى لتجتاح العالم
وجاء بها بايدن بحق الأمم المتحدة. فقال إننا على رغم الفوضى الضاربة أفضل حالاً بالأمم المتحدة مما كنا بعد الحرب العالمية الأولى حين اندلقت الفوضى على مصراعيها على العالم.
ولكن هناك من رأى في كتابات حفلت بها “فورين بوليسي” أن أميركا قطب النظام العالمي الجديد عاجزة عن لملمة الأشياء من حولها. وبلغ بكاتب أن سألها أن تعيد صياغة خطاب التزامها الدولي. فقال إنه طالما كانت أميركا تخرق القوانين الدولية للدفاع عن العالم الحر، وإسرائيل داخلة في التعريف، صح أن تروج لمهمتها لا بحماية النظام العالمي ذي الشرائع بل لحماية عالمها الحر. وزاد بقوله إن وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن يقول إن بلاده تقف مع عالم مبني على قوانين لا الشكوى الخام، وهي فكرة جاذبة. ولكن الأصل في الامتثال للقانون ألا يفرق، فبلينكن نفسه من قال للكونغرس إن إدارته ستفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية إذا ما صدرت تهم منها بحق بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل. وكان المنتظر حسب قول الكاتب أن تقف أميركا إلى جانب المحكمة وهي تنهض بواجبها في تطبيق القانون الدولي، ولكن يسوء أميركا بالطبع أن توجه تهم الإبادة الجماعية لزعيم الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، في زعمها.
ويضيف الكاتب أن أميركا كانت صريحة خلال الحرب الباردة في أنها خرجت للدفاع عن العالم الحر ولم تحتج للاعتذار عن ذلك.
على ما يبدو من ارتهان أمان السودان وإيواء أهله بالأمم المتحدة، إلا أن رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق عبدالفتاح البرهان جاء في كلمته أمام الأمم المتحدة (الـ26 من سبتمبر الجاري) بنهج سيكيف ذلك الارتهان بوجه كريم ومنتج. فدعا إلى ما سماه “الملكية الوطنية للحلول السودان ” للحرب في وكررها مرات أربع. وأراد بالمفهوم أن خلاص السودان مما هو فيه رهين بالإرادة السياسة السودانية. وهي الإرادة التي تؤمن بها الأمم المتحدة نفسها فعالية حلولها للمسألة السودانية ونجاحها. وصدر البرهان في دعوته هذه عن حسن ظن السودانيين بعزيمتهم في النهوض بأمرهم كما لا يحسنه غيرهم، فلم يستسلموا للديكتاتورية في تاريخهم منذ الاستقلال وأسقطوا نظماً لها ثلاث بنضال مدني فادح، وكان آخرها نظام الإنقاذ للإسلاميين الذي استعصى على المجتمع الدولي والذي حاول إسقاطه بالجزرة تارة وبالعصا تارة أخرى، وسقط في توقيته الوطني وبإرادة وطنية.
ولاستصحاب الملكية السودانية للحلول صح أن يكيف المجتمع الدولي مساعيه بما يمكن لها من التنزل على الأزمة برداً وسلاماً.
وأول تكييف لمساعي المجتمع الدولي هو في التصالح مع حقيقة الحفاظ على الدولة السودانية ومؤسساتها، فلسنا ليومنا في حال مزايدة عليها أو استبدالها بليل، وسبقت البلدان العربية الأعرف بالسودان إلى هذه المصالحة. وكان هذا موقف مصر من الحرب منذ يومها الأول، وما فتئت تعيده لمن ألقى السمع. وصدعت به سفيرة قطر لدى الأمم المتحدة في كلمتها بالجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الخميس الـ26 من سبتمبر الجاري. وجاء التعبير الأميز له في قرارات مجلس التعاون الخليجي الأخير في قولهم بـ”أهمية الحفاظ على سيادة وأمن السودان واستقراره ووحدة أراضيه، والحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية ومنع انهيارها”.
ويعني هذا بغير لبس توطين القوات المسلحة في الحرب كطرف شرعي من جهة أنها مؤسسة للدولة الوطنية لا يجوز انهيارها. ويترتب على هذا أن يتخلص العالم من نظرية “الجنرالين” عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو اللذين يوصفا بأنهما يخوضان حرباً للحكم سكرى بالشوكة. ولن يعفي هذا بالطبع القوات المسلحة من أن تتقيد بقانون الحرب الإنساني غير أنه يجعل انتهاكاتها “مؤسفة” كما تجري العبارة في حين تقع انتهاكات ’الدعم السريع‘ في نطاق الإرهاب.
ولما لم يتفق للمجتمع الدولي الشرعية في الحرب الدائرة ساوى بين عنف الطرفين مساواة اعتقل بها نفسه دون تنفيذ قرارات اتخذها لوقف تصعيد الحرب والانتهاكات ضد المدنيين، ولنأخذ مواقف المجتمع الدولي من المعارك الدائرة حول الفاشر بين القوات المسلحة وحلفائها في القوات المشتركة من حركات دارفور المسلحة و’الدعم السريع‘. فلم يتحرك مجلس الأمن قيد أنملة لتنفيذ قراره 2736 خلال الـ13 من يونيو الماضي الذي دعا فيه “الدعم السريع” إلى وقف حصار المدينة وخفض التصعيد، وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة وأمن المدنيين. ومما قاله مندوب بريطانيا في المجلس أن “الهجوم على الفاشر سيكون كارثياً لمليون ونصف المليون ممن نزحوا إليها فارين بجلدهم”. وقال مندوب سويسرا إن القرار يبعث برسالة لا لبس فيها لـ”الدعم السريع” لإنهاء حصارها للفاشر.
وكانت أميركا أول من حذر من الهجوم على الفاشر على لسان المندوبة الدائمة لأميركا لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، فناشدت “حميدتي” والقوى المتحالفة مع الجيش والجيش ألا يصعدوا الحرب. وقالت خلال الـ24 من أبريل الماضي إنها منزعجة لأخبار الهجوم الوشيك على الفاشر من قوات “الدعم السريع”. وخيرت واشنطن “الدعم السريع” بين أمرين هما أن يواصل ما هو فيه فيكبد الناس الزعازع في مجازفة بتفكك دولتهم، أو وقف الهجوم. ودعت في الـ11 من سبتمبر الجاري إلى وقف إطلاق النار على الفاشر التي أخذ “الدعم السريع” في مهاجمتها منذ أبريل الماضي، رأفة بملايين من الخلق الأبرياء. ووصفت المندوبة الدائمة لأميركا لدى الأمم المتحدة توماس غرينفيلد الفاشر بأنها على شفا حفرة من مجزرة. وطلبت من “الدعم السريع” رفع الحصار عنها أو أن العواقب ستكون وخيمة على المسؤولين عن الهجوم على الفاشر. واكتفت أميركا بتوقيع عقوبة على قياديين على رأس قوات “الدعم السريع” التي تهاجم المدينة بوضعهما في القائمة السوداء.
ولم يمتثل “الدعم السريع” لهذا الإلحاف الدولي إلى يومنا وظل بمنجاة من العقوبة: ثغاء كثير ولا صوف كما يقولون. وبدا أن صيغة “حرب الجنرالين” هي طريق الهرب من التزام المجتمع الدولي أخذ أي منهما بالشدة. فكان آخر ما جاء عن الرئيس بايدن عن السودان مراوغة بين الجنرالين. فأكد أن “هجمات ’الدعم السريع‘ تلحق أضراراً بصورة غير متناسبة بالمدنيين”، ودعا الجيش في وقت واحد إلى “وقف القصف العشوائي الذي يدمر حياة المدنيين والبنية التحتية”. وكأن هذه العبارات القوية للجنرالين في طلب السلامة لأهل الفاشر لـ”العلم” فحسب ولا عواقب لها. وهذا باب في تداعي الأشياء وعجز المركز في لملمتها. وبدا أن المخرج لبلد مثل السودان أن يظل يتمسك بـ”الملكية الوطنية للحلول”.