عبد الله علي إبراهيم
في عبارة منسوبة لونستون تشرشل أنه قال لا ترمي بـ”أزمة ناصحة” في سلة المهملات. والحرب التي تدور رحاها في السودان كره لنا، ولكنها مما قد تقول عنه إنه أزمة ناصحة للتفكر في إمكاناتها في بناء دولة وطنية حديثة متى تغاضينا هوناً عن كلفتها الإنسانية الباهظة. فالدول تخوض الحروب والحروب تصنع الدول في قول “شارس تللي”، عالم الاجتماع السياسي الأميركي، في رده نشأة الدولة الأمة إلى الحروب التي لم تكد تنقضي في باكر أوروبا الحديثة.
ولكن يخشى المرء أن تضيع صفوتنا السياسية هذه الإمكانية الفادحة من الحرب فلا نخرج منها بغير “فتعـرككم عرك الرحى بثفالهـا” في قول زهير بن أبي سلمى. والدلائل على هذا التضييع قائمة. فاستقالت السيدة نجاة طلحة من الحزب الشيوعي بعد خدمة ستة عقود فيه، استقالة من وحي أنثويتها. فاستنكرت على الحزب اعتزال القوات المسلحة باسم الحياد في الحرب بينه و”الدعم السريع” في حين تصد هذه القوات كما في وصفها الوظيفي، عدواناً على “أعراض ومقدرات السودان”. وتصدت لها السيدة نعمات مالك زوجة المرحوم عبدالخالق محجوب مؤسس الحزب خلال عام 1949، لتنبهها إلى أن أول من استخدم سلاح الاغتصاب عام 2021 كان من نفس الجيش الذي تدعو نجاة للوقوف معه. وهذا درك كبير في ما يعرف بـ”وما قولك عن أمر شبيه سبق أمرك؟” (whataboutism). ولا يعرف المرء لماذا كانت جريمة في قبح الاغتصاب تلغي نفسها بنفسها طالما ارتكبتها جهتان بغيضتان عند المرء؟ وهل امتنع الحزب الشيوعي عن إدانة اغتصابات الجيش في يومها لكي يتوقف عن إدانة اغتصابات اليوم طلباً للقسط؟ ما الوجه السياسي والأخلاقي للحياد هنا؟
لسنا نحسن عقد المقارنات بيننا والعالم
ومن أوسع أبواب إهدار إمكانية أن تكون للحرب بصمة في بناء الدولة الحديثة ضعف ملكتنا في المقارنة بين أوضاع السودان وأوضاع غيره. وهذا الضعف ثمرة مرة لانشغال هذه الصفوة الحداثية بالذات في مناهضة نظم ديكتاتورية توالت على البلاد فحكمتها 53 عاماً من أعوام استقلالنا الـ67. فما عقدوا مقارنة مع أوضاع بلد آخر حتى قرروا بمزاج معارض بحت أن السودان لا يرقى مراقي ذلك البلد، وتجدهم أخيراً قبلوا أن يقارنوا حال السودان بأحوال ليبيا وسوريا واليمن والصومال. وصحت المقارنة هنا إذا اقتصرت على اندلاع الحرب بعد ثورة وخراب عامرها ولائح ذهاب ريح البلد. ولكن متى جئنا لخصائص أوضاع تلك البلدان والسودان اختلف الأمر كثيراً.
فقامت الحروب في كل تلك البلدان وقد خسرت جيشها الوطني بالمرة بينما بقيت فينا القوات المسلحة مهما كان الرأي فيها. فقامت الثورة في اليمن والجيش منقسم بين علي عبدالله صالح وعلي محسن الأحمر، ثم جاء الحوثيون. وقامت الفرقة الرابعة التي غلب عليها العلويون في سوريا لتهمش قواتها المسلحة التي ضمت طوائف من السوريين السنة. وكذلك فعل معمر القذافي في ليبيا بإنشاء حرسه الجمهوري من خاصة أهله ليعطل القوات المسلحة. وبلغت كراهة الليبيين في قوات الدولة المسلحة أن قرروا إهمالها بالمرة والاعتماد على الميليشيات في طرابلس ناهيك بميليشيات حفتر في بنغازي. أما في الصومال فما انهزم الرئيس سياد بري خلال عام 1990 حتى تفرق الجيش الوطني إلى الجهات الأربع وسادت الميليشيات.
وهذا بخلاف السودان الذي لا تزال قواته المسلحة تخوض الحرب في صلاحياتها الوطنية المعروفة ضد قوات “الدعم السريع” التي تسميها بـ”القوة المتمردة”.
لو صحت مقارنة أوضاع السودان في أتون الحرب لما صدقت مثل صدقها عن العراق وهايتي. ففي كليهما تلاشى الجيش الوطني في خطة المعارضين للنظم الديكتاتورية ممن اتهموا الجيش بخدمتها والإفحاش في ذلك. فالمعارضون لنظام البعث هم من كانوا وراء حل الجيش العراقي ضمن تفكيك دولة البعث. وهي خطة لم تجد استحسان لا البنتاغون ولا وكالة الاستخبارات الأميركية. وتكبدت أميركا الأمرين من جراء ذلك الحل الذي فرغ أفراداً حسني التدريب العسكري للعمل المسلح ضدهم.
أما هايتي فهي أدنى في المقارنة للسودان من جهة ضغينة قسم مهم من الصفوة المدنية السياسية على الجيش وحله في مثلما تبيت صفوة سودانية مقدرة ذلك في السودان، فكلا الصفوتين ضجر من الجيش الذي إما حكم البلاد مباشرة أو تحت خدمة ديكتاتور.
فكان الجيش الهايتي ارتكب انقلابه الأخير ضد الرئيس جان برتراند آريستايد خلال سبتمبر (أيلول) 1991. وأنذر الرئيس بيل كلينتون الانقلابيين بترك سدة السلطة خلال الـ15 من يوليو (تموز) 1994 بالنظر إلى انتهاكاتهم لحقوق الإنسان ولأن الهجرة من هايتي هرباً من نظامهم إلى الولايات المتحدة تكاثرت حتى أشفقت كلينتون على مصير الانتخابات النصفية خلال عام 1994. فتشكلت قوة أممية دخلت الجزيرة بغير حرب لاستسلام الانقلابيين. وكان من مهام البعثة الأممية جعل الجيش قوة مهنية، وبدأت القوة الدولية في نزع السلاح الثقيل والخفيف من الجيش. وفي سياق سياسة إضعاف نفوذ الجيش في السياسة رتبوا لعملية تسريح استغنت عن معظم منسوبيه ليلقوا تدريباً في صنعة أو مهارة فيعاد دمجهم في المجتمع المدني. ولكن آريستايد العائد للحكم من منفاه قرر حل الجيش خلال يناير (كانون الثاني) 1996 حلاً لم يتفق للبنتاغون الذي كان من رأيه الاحتفاظ بجزء منه لحفظ الحدود. كما خشي أن يقود التسريح الواسع إلى اضطرابات إن لم تنجح الحكومة في توطين المسرحين في الشغل. ولم يسمع آرستايد منهم حتى أن أنصاره الذين أسقمهم الجيش حداً اقترحوا معه عليه أن يصدر تعديلاً دستورياً يمحو به الجيش من هيكل الدولة.
نقلاً عن صحيفة الأحداث