متابعات : المنبر 24
مع استقبال الفنان المصري ذائع الصيت، محمد منير، لعام جديد في حياته، يسترجع عشاقه وأصدقاؤه العديد من المحطات التي شكلت حياته ومسيرته الفنية. واحدة من أبرز تلك المحطات كانت زيارته الأخيرة إلى الخرطوم، العاصمة السودانية، التي كانت مليئة بالذكريات والمواقف العميقة.
في تلك الرحلة، لم يكن منير مجرد نجم غنائي جاء لإحياء حفل جماهيري، بل كان صوتًا يجسِّر بين ضفتي النيل، جالبًا معه روح النوبة وثقافتها التي تتمازج بين جنوب مصر وشمال السودان.
ورغم التحديات التي كانت تواجه الخرطوم آنذاك، فإن المدينة استقبلت “الكينج” بحفاوة استثنائية، حيث توافد الآلاف من السودانيين لمتابعة حفله الذي ظل عالقًا في الأذهان منذ ذلك الحين.
مشاعر مختلطة
ما وراء الكواليس، كانت الأجواء مختلفة. فقد عبّر منير عن مشاعر مختلطة تراوحت بين الفخر والحزن. فخره بالترحيب الحار الذي حظي به من الشعب السوداني كالمعتاد، وحزنه على الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد. كانت جلساته مع السودانيين مليئة بالأحاديث الفنية والذكريات المشتركة عن الفنون، والتراث، والعلاقة التاريخية بين الشعبين. كذلك، كانت هناك لقاءات جمعته مع شباب سودانيين تحدثوا معه عن الثورة السودانية وآمالهم بمستقبل أفضل. تلك الرحلة الأخيرة لمحمد منير إلى الخرطوم لم تكن مجرد جولة غنائية، بل كانت رحلة وجدانية عميقة، تأثر بها كما أثّر في جمهورها. وهي لحظات لم يغفل منير أن يعبر فيها عن دعمه لهم.
بدوره، كشف مهند الدابي، المدير العام لمؤسسة نيرفانا الثقافية، “مهندس الزيارة” في حديثه لـ”العربية.نت” عن كواليس زيارة “الكينج” الأخيرة إلى الخرطوم، مسلطًا الضوء على تفاصيل غير معلنة.
“الخرطوم وحشاني”
وقال: بدأ التخطيط لزيارة منير كفكرة مجنونة، أشبه بحلم بعيد المنال، لكن كان هذا الحلم يسكنني ويشعل حماسي. لطالما حلمت بأن أرى “الكينج” وسط جمهور الخرطوم، يملأ أجواء المدينة بصوته الشجي. في أكتوبر 2022، عندما كنت جالسًا معه في داره، بادرت بسؤاله بابتسامة تحمل في طياتها الأمل: “ما تجي الخرطوم يا ملك؟”، أجابني بابتسامة دافئة: “دي الخرطوم دائمًا وحشاني”.
من تلك اللحظة، قررت أن الأمر لا يمكن أن يظل مجرد حديث عابر. كان لا بد من تحويل هذه الأمنية إلى حقيقة. ولكن العقبات كانت ضخمة: تكاليف باهظة، وتجهيزات لوجستية هائلة، ووضع أمني متفجر في الخرطوم، حيث كانت المدينة تعج بالآليات العسكرية، وكل يوم نعيش على حافة الخوف من اندلاع ما لا يُحمد عقباه. ورغم ذلك، قررنا المضي قدمًا. كنت أطلق على الحدث “حفلة القرن”، ولم أكن أعلم أن الخرطوم بعد أسابيع فقط ستتحول لساحة حرب.
كأن النيل يغني
ورغم الصعوبات، كان هناك ضوء يشع من قلب هذا الحلم. عندما وصل منير إلى الخرطوم، كأن النيل نفسه كان يُغني ترحيبًا به.
منير، بصوته الدافئ وكلماته التي تعانق الروح، كان يسأل الجميع: “انتوا كويسين؟ السودان دائمًا في قلبي”. جلسنا في السيارة نستمع لأغاني الفنان الكبير محمد وردي، وكان منير يغني معها، وكأن بينه وبين السودان قصة حب أبدية.
في الحفل، كان المشهد ساحرًا، عشاق منير تراصوا على امتداد عدة كيلومترات لدخول الحفل، وكأن الخرطوم بأكملها جاءت لتحتضن “الكينج”. الحضور كان ساحقًا، والجمهور السوداني كان يُغني، يرقص، ويهتف من أعماق قلبه، محملا بآمال تتجاوز الحفل لتشمل مستقبل البلد بأكمله.
وختم مهند الدابي حديثه لـ”العربية.نت” عن تلك الزيارة قائلا: “لم يكن منير مجرد مغنٍ زارنا في الخرطوم بقدر ما كان شروقًا لشموس أجيال من معجبيه ومحبيه وعشاقه. شروق الخرطوم الحزينة الخاملة، الهامدة، التي تتحرك في مكانها كأنها جزيرة معزولة. شروق للوجدان السوداني الذي عاش وتربى على مدى عقود من الزمن على هذه الأنغام الأصيلة والألحان الذائبة في هوانا الموسيقي وذائقتنا. لقد أنار منير سماء الخرطوم وأسعد الآلاف في تلك الليلة”.
حضور لافت
إلى ذلك، يؤكد الناقد المرموق، مصعب الصاوي، لـ”العربية.نت”، أن الفنان منير يتمتع بحضور لافت في الحياة الفنية السودانية، ينبع من المحبة العميقة والانتماء لجذور الثقافة الكوشية النوبية التي تمتد جنوب مصر إلى حزام النوبة الواسع. هذه العلاقة العميقة تظهر في تعاونه المميز مع عملاق الفن النوبي، محمد وردي، الذي يعد أحد رموز تلك الثقافة.
غنى منير أغنية “وسط الدائرة” لوردي، كما غنى “الشعب حبيبي وشرياني” لشاعر الشعب محجوب شريف.
بالإضافة إلى ذلك، اشترك مع وردي في تقديم الفن النوبي برؤية معاصرة، تضمنت تجديدًا موسيقيًا باستخدام آلات غربية مع الحفاظ على الروح النوبي الأصيل، كما نراه في أغاني مثل “شمندورة” و”نعناع الجنينة”.
وتابع الصاوي: زيارات منير للسودان لم تنقطع منذ بدايات ظهوره، وآخر لقاء جمعني به كان في منزل الإمام الراحل الصادق المهدي بأم درمان، حيث كان منير يؤدي واجب العزاء بعيون دامعة، مستذكرًا مآثر الإمام وتقديره للفكر والفنون والإبداع.
وأوضح الصاوي لـ”العربية.نت” أن علاقات منير امتدت إلى الكتاب والصحافيين والموسيقيين السودانيين، وحتى فناني التشكيل والسينما، ما ساهم في بناء روابط عميقة ومميزة. ولم تقتصر صلته على فناني الثقافة النوبية فحسب، بل امتد عشقه لأغاني وسط السودان أيضًا، حيث غنى للفنان أحمد المصطفى أغنية “قربه يحنن” بإيقاع راقص وتوزيع موسيقي حديث.