عبد الله علي إبراهيم
كان خطاب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات “الدعم السريع” الذي أذاعه في التاسع من أكتوبر الجاري مما ملأ السودان وشغل الناس في الأسبوع الماضي. وكان توقيت الخطاب بعد خسارة “الدعم السريع” لعدد من المواقع لمصلحة القوات المسلحة وهجوم حميدتي العاصف الذي لم يترك أحداً، مما أوحى لبعضهم بأنه كمَن رأى نذر الهزيمة فأقلقت مضجعه، وهذا إبعاد في النجعة مع ذلك. وأخذ هجومه على مصر التي حمّلها الضربات القاصمة له في المواقع التي خسرها حيزاً كبيراً. وبدا من بعض الكاتبين في إثر خطابه أنهم على خطته صادرين عن مواقف تاريخية ناقدة للسياسة المصرية في السودان لا على بينة تحققهم من نبأ اشتراك مصر الفعلي في الحرب كما زعم “حميدتي”. وعموماً استحسن آخرون أنه خرج في خطابه بسليقته، فقال ما بخاطره بعيداً من النصوص التي كان يرصصها له مستشاروه. وساقته هذه السليقة ربما إلى ما ودّ بآخرة لو تجنبه. فأخذ عليه كثيرون إعلانه العداء لشعب الشايقية من سكان النيل الشمالي وكل جريرتهم خروج بعض “الكيزان” الإسلاميين من وسطهم. ولم يطرأ لأحد مؤاخذته بعد على تهوينه من المرأة بما لا يليق بمقاتل من أجل نظام مدني ديمقراطي يكفل لها المواطنة على قدم المساواة، فقال عن خصم ذكره إنه “يرقص كالفتاة” وقال عن آخر إنه “ود مرة”.
وحظي حديث حميدتي عن الاتفاق، الذي وقعه الجيش و”الدعم السريع” و”قوى الحرية والتغيير” في ديسمبر 2022، بأكثر التعليق. فذكر فيه بروز بعض قادة “الكيزان” على الساحة السياسية خلال الأيام الماضية ليستنكر ذلك من المجتمع الدولي وأميركا بالذات. فقال إن هذا المجتمع لو أراد أصلاً العودة بـ”الكيزان” لمسرح السياسة كما نرى، فلماذا جاء بالاتفاق الإطاري الذي دمر بلدنا؟ فـ”الإطاري”، على حد قوله، هو سبب الحرب. وزاد أنه لم يرفض الاتفاق في يومه وقبله كمرحلة انتقالية ولكنه كان يعرف أن فيه “حاجات” حدث بها المجتمع الدولي، وما اعتبروها. فحدّث ممثلي هذا المجتمع بأن ذلك الاتفاق لن يتحقق. وسأل لماذا أنشأتموه؟ هل لتدمروا السودان؟ أليس كذلك؟، حسناً. ثم عاد للهجوم على الإطاري في نهايات خطابه. فحمّل المجتمع الدولي مسؤولية خراب السودان، وكان سبق أن قال لهم إن “الإطاري سيدخل البلد في مشكلات حرب” على رؤوس الأشهاد.
الطرف الثالث
كان وقع الهجوم على “الإطاري” ثقيلاً على تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية “تقدم” التي كانت هي الطرف الثالث في التوقيع على ذلك الاتفاق، وظلت تزكيه كالبلسم الشافي المنتظر لأزمة السودان بعد انقلاب العسكريين على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021 لولا أن الكيزان كانوا قد بيتوا النية على تخريبه حرباً ليعودوا إلى الحكم بعد إجلائهم منه بعد ثورة ديسمبر 2018. ولا ريب أن تحرجت “تقدم” من هذا التوزير بالحرب يأتيها من مأمن. وأمسك أحمد طه، الإعلامي بشبكة “الجزيرة” بزمام هذه الحرج حين قال لبكري الجاك، المتحدث الرسمي لـ”تقدم” على برنامجه، باجتماع طرفي الحرب على تحميل “الإطاري” وزر الحرب. فكان ذلك رأي الإسلاميين فيه وها هو “حميدتي” يتفق معهم.
صرف بعض أهل “تقدم” نكير “حميدتي” على “الإطاري” بالإتيان بأحاديث سبقت له لم يرَ فيها بـ”الإطاري” ما رآه الآن. فجاؤوا بفيديو له قبل التوقيع على “الإطاري” اتفق فيه معه جملة وتفصيلاً. وقال إنه هو المخرج من الأزمة السياسية التي تأخذ بخناق البلد وتكاد تعصف به بددا. وقال إن من وراء “الإطاري” جماعة قليلة كتبته في قالب جاهز في ورقة كتلك (وعرض ورقة على المستمعين) فيها ثمان أو تسع فقرات. وقال إنه سألهم إن كان كلامكم ذلك “بيبقى” أي يصير. فأكدوا له أنه صائر. فسألهم إن كانوا سينطون منه فقالوا لا. وسألهم إن كانوا سيرجعون عنه فقالوا لا. فقال لهم بسم الله الرحمن الرحيم ومن هنا ولقدام. وقال للمستمعين إن ذلك الاتفاق مخرج البلد فتمسكوا به، لا رجعة منه والمجتمع الدولي كله واقف معه.
وإذا كان ثمة درس من المبارزة بنصوص “حميدتي” هذه فهو أنها ربما صح تجاهلها كبينة على رأيه في “الإطاري” إيجاباً وسلباً. وإن كان غريباً أن يبدو “حميدتي” حتى في النص الذي جاء به أهل “تقدم” كبينة على موافقته على “الإطاري” متشككاً في سداده، أو أنه سيقطع بنا المسافة إلى بر السلامة من الأزمة السياسية. فكرر قوله لقوى الحرية والتغيير (قحت) إن كان الإطاري “حيبقى”، أي سيجد طريقه للتنفيذ، وأنهم على قلب راجل واحد خلفه. وربما صدق هنا في قوله في خطابه الأخير من أنه حذر من الاتفاق الإطاري حتى وجد من طمأنه على أنه اتفاق سديد وسينزل برداً وسلاماً على السودان. وسيتعين علينا أن نعرف ما هي تلك “الحاجات” التي ذكر في حديثه الأخير والتي قال إنه كان يقولها لـ “قحت” وممثلي المجتمع الدولي وتغاضوا عنها. فواضح من النص القديم الذي جاء به أهل “تقدم” لإفحامه أنه كان قابلاً بالاتفاق باكراً فما دهاه، أنه كان في نفس “حميدتي” “شيء من حتى” الإطاري.
ونواصل.