تحقيق : بهاء الدين عيسى
“كنت أحلم أن أصبح طبيبة لعلاج وخدمة البسطاء ولكن حلمي تبدد “!، هكذا قالت تباريح حمزة، 12 عاماً، كانت تدرس بالصف الخامس من المرحلة الإبتدائية في إحدى مدارس مدينة الخرطوم ،العاصمة السودانية، قبل أن تضطرها الحرب وعائلتها إلى النزوح والإنقطاع عن الدراسة.
وتضيف “لا أعرف أين ستمضي بنا هذه الحرب اللعينة، بعد اشتداد المعارك نزحنا من منطقة الكلاكلة جنوبي الخرطوم إلى مدينة جبل أولياء التي شهدت أيضاً معارك طاحنة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بعد ذلك اضطرت أسرتي للفرار إلى مدينة القطينة بولاية النيل الأبيض، ومنها نحو مدينة ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة، وعقب اندلاع المعارك هناك توجّهنا إلى مدينة سنار، ثم القضارف وكسلا”. ومع ظروف الحرب تقطن تباريح حالياً في خيمة مُتهالكة مصنوعة من الجولات بأحد معسكرات النزوح.
تباريح هي واحدة من الفتيات السودانيات اللواتي اضطررن لترك مقاعد الدراسة بسبب الصراع التي تفجّر في السودان في 15 أبريل/ نيسان 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع والذي يتواصل حاليا، مُعرّضا مستقبل العديد منهن إلى الضياع ومتسببا أحيانا في تزويجهن قسريا.
مصيرٌ مَجهولٌ
تقول فرح فتح الرحمن، 11 عاما، بنبرة مليئة بالحزن “الحرب دمّرت كل شيءٍ، وجعلت مصيري مجهولا. أضعت سنة كاملة من عمري، ولا أدري كم سيتمر هذا النزاع”، مضيفة كان “يجب أن أكون في المدرسة لكن لا توجد مدرسة متاحة“.
اضطرت فرح للنزوح للمرة الرابعة بحثاً عن مكان آمن بسبب تمدُّد الحرب الطاحنة. نزحت أولاً من مدينة الخرطوم إلى مدني، ومنها إلى سنار، ثم القضارف وكسلا، ولا تزال تقبع في معسكرات النزوح بكسلا ولا تعرف ماذا يُخبئ لي المستقبل، في وضع في غاية القسوة مع تواتر موجات البرد وشُح الغذاء.
في أحدث تقرير صادر عن منظمة يونسيف في 19 أكتوبر 2023، فإنّ هناك 19 مليون طفل خارج المدراس في السودان. حذّرت المنظمة من أسوأ أزمة تعليميّة في العالم يتعرّض لها جيلٌ كاملٌ، حيث جاء على لسان ممثلة المنظمة في السودان مانديب أوبراين أن “السودان على وشك أن يصبح موطناً لأسوأ أزمة تعليمية في العالم، فقد تعرض الاطفال لأهوال الحرب”، وتضيف: “الآن بعد أن أُجبروا للابتعاد عن فصلوهم الدراسية ومعلميهم وأصدقائهم، فإنّهم مُعرّضون لحظر الوقوع في فراغ سيهدد مستقبل جيل بأكمله“.
وبحسب نفس التقرير، ينتظر أكثر من 5.5 مليون طفل يقيمون في مناطق أقل تأثراً بالحرب، إمكانية إعادة فتح المدراس، في حين جاء في تقارير أخرى للمنظمة الأممية أن 6.5 مليون طفل فقدوا إمكانية الوصول إلى المدرسة بسبب تزايُد العُنف وانعدام الأمن في مناطقهم، مع إغلاق 10 آلاف و400 مدرسة على الأقل في المناطق المُتضرِّرة من النزاع.
ومنذ أكثر من 9 أشهر على اندلاع الحرب، عُلِّق نظام التعليم، حيث تفككت البنى التحتية للمدارس في مناطق عدة، وتأثر آلاف الطلاب والمعلمين ممن أُجبروا على الفرار من منازلهم وترك دروسهم ومدارسهم، إلى جانب تعرُّض مدارس عديدة لأضرار كبيرة وتدمير بعضها بالكامل، في حين أصبح الآخر مأوىً للنازحين والمُشرّدين وثكنات عسكرية.
يرى الخبير في المجال التعليمي، الهادي سيد أن المأساة التي يعيشها السودان انعكست على كل مناحي الحياة، خاصةً التعليم، ويُشير إلى أنّ “تعليم الفتيات تعطّل تماماً وصار مهددا بدمار اجتماعي قادم لا محالة“.
الزواج القسري شر لابد منه
ومع انقطاع الدراسة وإغلاق المدارس، أصبح هناك خطر جديد يتهدد الفتيات وهو إجبارهن على الزواج بدون مراعاة سنهن بما أنهن قاصرات ورغبة في التخلص من عبئهن الإقتصادي أو حمايتهن من الإغتصاب من المقاتلين.
هذا ما حصل مع فاطمة (17) عاماً، التي نزحت من العاصمة الخرطوم إلى ولاية نهر النيل شمالي السودان، حيث تقول: “كنت أدرس في آخر المرحلة الثانوية وفي انتظار الامتحانات النهائية التي ستمكنني من الدخول إلى الجامعة، ولكن طموحاتي تبدّدت، وتم إلغاء الامتحانات في يونيو 2023 لأجل غير مسمى. بعد ستة أشهر من ذلك، أبلغتني والدتي أنّ الظروف المعيشية لا تسمح للأسرة بتوفير احتياجاتي، خَاصّةً أنّني البنت الكبرى ولديّ إخوة صغار، وأنّ رجلاً ثرياً تقدم للزواج بي”. وتتابع ” كان هذا الخبر بمثابة الصدمة بالنسبة لي، فأبي وافق على تزويجي بتاجر ميسور الحال في أحد أسواق الذهب، دون أن تتم استشارتي، أو إبلاغي بالأمر”. وبعد أسابيع تمت مراسم الزواج، ولكن فاطمة تقول انها تعيش في جحيم، “فالرجل خمسيني أي أكبر مني بحوالي 35 عاماً، ويتعامل معي بقسوة في كل شئ دون رحمة، رغم أنني أصغر من بناته من زوجته الأولى، ولكن لا حول لي ولا قوة“.
في هذا الصدد، يرى الهادي سيد أنّ تأزم الوضع بسبب استمرار الصراع في السودان ” جعل الآباء لا يبالون بتزويج بناتهم رغم صغر سنهن، وذلك لسببين: أولاً خوفاً عليهن مما يجري من انتهاكات بسبب الحرب، وثانياً: بسبب الضغوط المعيشية.”
من جهتها، توضّح الدكتورة ثريا إبراهيم، الناشطة بالمجتمع المدني أنّ وضع الحرب يُعرِّض الفتيات لمخاطر وانتهاكات خطيرة، وتُشير الإحصائيات إلى أنّ الفتيات والنساء هن الأكثر عرضةً للاغتصابات،. لذلك وفي الوقت الراهن، لا تُشجِّع الأسر بناتهن على الذهاب إلى المدارس، وتخشى عليهن من مخاطر الإغتصاب، فتقررن الإسراع في تزويجهن. وتضيف أن الفتاة في السودان تتعرّض في الوضع الطبيعي لتمييز منذ ولادتها في التعليم والصحة وحتى في التغذية، فما بالك في أوقات الحرب. “وتبقى البنت هي الحلقة الأضعف في المجتمعات السودانية “.
التأثيرات النفسية على الفتيات
لا يتسببب الإنقطاع عن الدراسة في اضطرار الفتيات إلى الزواج فقط وإنما يُخلّف أيضا آثارا نفسية عليهن. وهنا تشرح اختصاصية الطب النفسي، الدكتورة صفاء الأصم، أنّ التعليم يمثل أحد العوامل النفسية التي تخلق توازناً في شخصية الإنسان وتخرجه من مرحلة الانهيار النفسي بسبب تجارب الحياة القاسية ومنها الأزمات والصراعات. ولكن غلق المدارس حاليا، جعل من الفتيات فريسة سهلة للأمراض النفسية، حيث تم تسجيل درجات اكتئاب عالية لدى العديد منهن. لذلك تؤكد الأخصائية النفسية على ضرورة توفير العناية النفسية لهن، خاصة وأن ذاكرة الحرب تظل تسكن العقل الباطني، وتؤثر على التجاوب النفسي، وتظل تجهض باستمرار قُدرتهن على إخراج أوجاع الحرب من داخلهن. وتشير إلى أنّ “أغلب مَن يخرجون مِن دائرة الحرب دون الإهتمام بالعناية النفسية سيكونون عرضةً للانتكاسة دوماً“.
ولكن وضع تعليم الفتيات في السودان لم يكن دائما سيئا، فقد جاء في آخر تقرير صدر من وزارة التربية والتعليم السودانية في 17 أكتوبر تشرين الأول 2022 أي قبل الحرب بنحو 6 أشهر، أن هناك ارتفاعا في نسبة استيعاب البنات في المدارس مُقارنةً بالذكور.
وتُشير آخر إحصائية لوزارة التربية والتعليم أنّ عدد الطالبات في التعليم قبل الجامعي بلغ 4.845.059 طالبة مُصَنّفَة إلى مجموعتين حسب نوعية تلقي التعليم، المجموعة الأولى هي مجموعة الطالبات في التعليم النظامي، وتضم 4.097.483 طالبة، منها 542.266 طالبة في مرحلة التعليم قبل المدرسي، و2.971.127 طالبة في مرحلة التعليم الأساسي، و560.438 طالبة في التعليم الثانوي الأكاديمي، و7179 طالبة في التعليم الثانوي الفني، و795 طالبة في التعليم الثانوي الديني، و15678 طالبة تتلقى التعليم من ذوي الاحتياجات الخاصة ، أما المجموعة الثانية فتشمل مجموعة الطالبات في التعليم غير النظامي، وتحوي 747.576 طالبة، وتضم 94783 طالبة في تعليم اليافعين، و652793 طالبة في تعليم الكبار.
ومن أهم المُؤشِّرات الإيجابية في هذه الإحصائيات، ارتفاع نسبة القبول للبنات إلى 76.1%، ووصلت نسبة الاستيعاب إلى 67,4% بوجود فجوة تمثل 0,7% من استيعاب البنين.
ويلاحظ أيضاً في الآونة الأخيرة أنّ عدد الطالبات في التعليم الجامعي تفوق نسبة الطلبة، وأن نسبة نجاح الطالبات أعلى من نسبة نجاح الطلبة 64.4 في المئة مقابل 62.
جاءت بالتالي، ظروف الحرب لتوقف هذا التقدم الهام في ردم الهوة بين الجنسين على مستوى التعليم، لتعود بالفتيات سنوات إلى الوراء وتزيد من هشاشة أوضاعهتن التعليمية والاقتصادية والاجتماعية.