
*لا شئ يعدلُ الوطن…*
وبينما أتأمل نجوم السماء في ليل رمضاني باااارد على سطح منزل عمي عباس بحثاً عن شبكة يشهق بقطراتها هاتفي فأطرب لسماع تنبيهات رسائل الواتس وإشعارات التطبيقات الأخرى، وأسعدُ بالتواصل مع والديّ وإخوتي وأهلي المهاجرين والنازحين كما كان حالي يوماً ما.
كنت على غير عادتي صعدت هذه المرة بكباية شاي صاموتي كما يقول أهلنا في الجزيرة، فلا مزاج لي مع القهوة التي نتناولها بعد الإفطار مباشرة، لكني كنت أُرضي (نفيستي) منها بفنجان واحد يومياً.
ظلام داااامس إختفت فيه أضواء المدن كما إختفت فيه المدن والقرى نفسها بعد أن ابتلعتها هذه الحرب المجنونة الملعونة.
هنا في الجزيرة الخضراء، وفي تلك البقعة الحميمة من الوطن التي طالتها أيد التتار بحملتهم الإنتقامية وإنتهاكاتهم التي لم ير التاريخ مثلها عبر عيونه وصفحات كتبه، هنا لا يأتي الضوء الا مع إشراق الشمس بنور ربها ضياءاً وحياةً للغلابة التعابة، وبمؤانسة القمر ومواساته لهم في بعض الليالي.
إنقطاع التيار الكهربائي لأكثر من شهرين اجبر المواطنين على التعايش مع ظروف يصفونها بالرحمة مقارنة بفترة إحتلال الجنجويد الذين إستباحوا القرى وروّعوا أهلها المسالمين فلم يسلم من شرِّهم أحد.
الناسُ أصبحوا كالموتى السائرون،
كنت أسلِْم عليهم وأُطايبهم فيحمّدون السلامة لعودتي من رحلة النزوح المُر التي كنت أفكر في قصِّ أهوالها وحكاويها لأصدقائي لكني عدلت عن ذلك فقد ذهلت عندما رأيت حالهم واستمعت لحكاويهم ومغامرات الرعب التي عاشوها مع الجنجويد خلال فترة نزوحي عن القرية، فكل من أعرفه صارت ملابسه لا تعرفه، إذ لا يملأ منها الآن إلا نصفها او أكثر قليلا وكأنهم أطفال يرتدون ملابس أبائهم فيغوصون فيها حتى يكادون لا يلامسون أطرافها، وجوه غائرة الملامح وأجساد هزيلة.
أعتقدت أنّ ما حدث لهم بسبب إنتشار الحميّات والملاريات بأنواعها والتايفويد بصورة مخيفة هذه الأيام في ظل العجز والفقر المداومين، لكنّي أدركت أن حالة الخوف والقلق والسهر التي إستمرت طيلة هذه الفترة كان لها أيضاً تأثيراً كبيراً على صحة الناس وسلامتهم فصرت أحمد الله على سلامتهم عند ملاقاتهم.
تعطيل سُبُل الحياة وتدمير الأسواق وكافة مؤسسات الدولة بالمنطقة والحرائق هنا وهناك يجعل عودة الحياة لطبيعتها وسابق عهدها أمر صعب وبعيد المنال وتحدٍ كبير فرض نفسه على من يُسأل عن أمرنا ولكن قبل ذلك هو تحدٍ أكبر لنا نحن كمواطنين في إستشعار واجباتنا تجاه بلدنا ومستقبل بناتنا وأبنائنا ومعرفة حقوقنا في الحياة الكريمة أيضاً وكيف نتعايش ونتقبل بعضنا في بلد يتسع لنا جميعاً.
يُقال أنَّ دروس الحروب قاسية، وأظنُ أنها الطريقة الأصعب لتوصيل حكمة إلهية وإشارة لنا نحن البشر الذين كان من المنوط بنا إعمار الأرض وليس خرابها وتدميرها، لذلك كان علمُ الله أوسع من تعجب الملائكة حين إستنكروا ترك من يفسد فيها ويسفك الدماء وجعله مستخلفاً عليها.
وبينما أتأمل في كل هذا، لا أدري لما استحضرني الآن مقطع أغنية عم عبد الرحيم في رائعة حمّيد وبصوت أبو السّيد *(وإييييييييه الدنيا غييير، لمة ناااااس في خيييير، أو ساعة حزن!!)*
لعله من أكثر معاني الحياة السامية إختصاراً وفيه إجابة لتساؤل مُلِح ظل يطرق رأسي بشدة منذ فترة طويلة.
ثم تذكرت حينها أنغام العميري وحنان النيل وهما ينافسان بعضهما جمالاً.. *(لو أعيش زول ليهو قيمة أسعِد الناس بي وجودي، زي نضارة غصن طيب كل يوم يخضر عودي)*
ياااااا الله..
هذا عين ما وجّه به *قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لأصحابه (خيركم خيركم لأهله).*
لطالما اعتقدت أن الإنتاج الأدبي عموماً في السودان هو الأقيم والأجمل ومن المفارقات أنه لا يتسق أو يتناسب مع إنتاجنا العملي والإقتصادي وشتى ضروب الحياة الأخرى.
يؤلمني دوماً حال هذا البلد المكلوم الذي أوجد الله به جميع الخيرات والثروات وإتساعه لنا جميعأ، ولكن ما يؤلمني أكثر هو عجزنا نحن السودانيون عن إدراك كل ذلك وبجميع طرق التعليم التي مارستها معنا الحياة وتجاربها.
لست يائساً ولا ينبغي لي، نعم.. سيبقى الأمل بحاملي الشموع ومشاعل التغيير في الظلام، وبالله قبل ذلك كبير.
أ. ص.
طيـــبة
١٢ مارس ٢٠٢٥م
الموافق
١٢ رمضان ١٤٤٦هـ