“بريد محبة” هبة المهندس آسرة العقول والقلوب بقلم.. طارق يس

بالروح والقلب نكتب عن هبة المهندس..
تلك التي لم تكن مجرد مذيعة، بل كانت “هبة الله” لقلوبنا في زمن القحط والانكسار..

في نهاية التسعينات، حين كانت البلاد تئن تحت وطأة الحرب والضيق،
وحين لم يكن لنا من نافذة على العالم سوى شاشة يتيمة اسمها “تلفزيون السودان”،
أطلت علينا، فجأة، كنسمة رطبة في قيظ الخرطوم..
كطوق ياسمين يتسلل من بين الشقوق ليقول لنا إن الجمال لم يمت.

هبة المهندس، الفتاة التي لم يحتج الناس إلى ترف الانتظار ليعرفوا أنها مختلفة،
فمن أول ظهور لها في برنامج مشوار المساء، انقلبت قواعد المشاهدة.
لم يعد الناس يضبطون ساعاتهم على ضيوف البرنامج،
بل على إطلالتها، على ضحكتها، على أسلوبها المهذب، وملامحها التي تحكي عن وطن كامل من الطيبة.

تحولت البيوت إلى مسارح صغيرة تتجمع فيها العائلات،
ليس لمتابعة البرنامج، بل للجلوس مع هبة.
كانت تمشي في بيوت الناس دون استئذان،
تدخل عبر الشاشة، ثم تستقر في القلوب،
حتى إن الكهرباء، حين تقطع، لا تقطع ذكراها.
يظل الناس يتخيلون حضورها، يسمعون صوتها في الذاكرة،
ويكررون مقدمتها كما يُتلى الدعاء في مواطن الرجاء.

هبة، التي أحبها الرجال والنساء معاً،
أصبحت أيقونة، ملهمة، ومقياساً لا يُخطئه الذوق السوداني.
حتى الأمهات، حين يردن أن يدعين لبناتهن بحسن الخلق والجمال والقبول، يقلن:
“يا رب هبة بتي وأعقر عليها”.
وذاك الدعاء، وحده، قصيدة حب لا تُقال إلا في من بلغت القلوب مداها معها.

كنا لا نركب حافلة ما لم يكن على زجاجها الخلفي اسم هبة،
وكان سائقو البصات يزينون مركباتهم بصورتها،
لأنهم كانوا يعلمون أن جمالها لا يخص الشاشة فقط،
بل هو رزق يومي يعين على عنت الحياة.

كانت تجلس معنا عند البنابر، تمسك الفوطة معنا وتمسح “صندوق الشاي”،
ترقص شرارة الفحم حين تبتسم، وتصفو الأوقات حين نسمع اسمها.
لم تكن مجرد صوت وصورة.. كانت فكرة، كانت حضوراً داخلياً.

كتب فيها الشعراء، وتلعثم بها العشاق،
حتى الدكتور الشاعر، الذي عشق سيدة في جامعة الخرطوم،
أخطأ الحرف والنمرة، وجاطت منه النتائج،
لأنه لم يعرف “ست الحلا”،
ولو عرف، لعدل الميزان، وكتب اسمها أول السطر.

لكن، كما كل جميل لا يُستبقى في هذا الوطن إلا قليلاً،
رحلت هبة.. هجرت الشاشة، فهجر الناس “مشوار المساء”،
وغابت شمسها عن تلفزيون لم يعرف كيف يحفظ نجومه.
لكنها، رغم الغياب، بقيت علامة لا تُمحى، وشامة على جبين الإعلام السوداني،
وأمنية جميلة تمر بخواطر من عاشوا عصرها.

واليوم، وهي تقاوم بأسلوبها الجميل المرض،
تحارب السرطان بابتسامة عريضة وروح لا تُقهر،
نرفع الأكف إلى السماء وندعو من قلوبنا:
اللهم اشفِ هبة، وعافها، وبارك في عمرها،
كما كانت باركة في أيامنا..
واجعل ما قدمته لنا من فرح وونس، شفاعة لها في الدنيا والآخرة.

لاتبخلوا بالدعوات لها..
فالدعاء لا يحتاج كهرباء ولا إرسال،
يكفي أن تذكر اسمها في سجدة صادقة،
فرب السماء يعلم قدرها في الأرض.

وشرك مقسم يارب على “الدقشم”. ياسيدة الشاشة
. صبيا 2/7/2025

موقع المنبر
Logo