تحقيق: المنبر 24
هنا المشهد المأساوي الذي يهز الضمير الإنساني، تصف فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً، كيف شاهدت قتل أبيها وأمها ثم تعرضها للاغتصاب الجماعي. وكانت تتحدّث بجمل قصيرة، وهي جالسة بجانب أختها الكبيرة في مخيم اللاجئين المترامي الأطراف الذي نشأ في أدري، وهي مدينة على الحدود التشادية السودانية.
وقالت الفتاة، إنه في الساعات الأولى من صباح 27 أبريل، تعرض مخيم النازحين في الجنينة، حيث كانت تعيش مع أسرتها، للقصف. ثم وصل مقاتلو قوات الدعم السريع والجنجويد سيراً على الأقدام. وجروا والدها إلى الشارع وأطلقوا النار عليه في صدره، وقالت “والدتي كانت تتوسّل لهم يتوقفوا.. ضربوها في رقبتها.. (حرقوا) البيت بعدما سكبوا بترولاً”.
حادث مأساوي
وأضافت الفتاة أنها ركضت مذعورة ومعها حوالي 15 شخصاً إلى مبنى على الجانب الآخر من الشارع واحتموا به، ليقعوا في أيدي مقاتلي مليشيات الدعم السريع الذين يحتلون المبنى.
لاحظت خمسة مقاتلين من المجموعة التي قتلت والديها. حبسوها هي وصديقتها في غرفة.
وقالت لـ”رويترز” إن الرجال كانوا يرتدون الزي العسكري والقبعات الحمراء الخاصة بقوات الدعم السريع. ولمدة خمس ساعات، تناوبوا على اغتصابها هي وصديقتها، وسمعت صديقتها تصرخ “اقتلني”. ثم كان هناك طلق ناري.
وقالت الفتاة “لقد دقوها (أطلقوا عليها الرصاص) لأنها كانت ترد. أنا فضلت ساكتة”.
وناشد وقتها حاكم غرب دارفور مني أركو مناوي في 14 يونيو، للتدخل لوقف ما أسماه “إبادة”، وفي مساء 14 يونيو قُتل والي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر بمدينة الجنينة بطريقة أشبه بتصفيات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بعد اعتقاله من قِبل مليشيات الدعم السريع واقتياده إلى جهة مجهولة.
وبعد وقتٍ وجيزٍ من اختطاف الوالي، بَـثّ ناشطون مقاطع فيديو، أظهرت جثمانه وهي ملطخة بالدماء بعد التمثيل بها.
ويُعد خميس المنتمي لعرقية المساليت كبرى قبائل غرب دارفور، أحد قيادات حركة تحرير السودان قيادة عبد الواحد نور عند اندلاع الحرب في إقليم دارفور خلال 2003، قبل أن ينشق منه ويؤسس فصيلاً حمل نفس الاسم.
وكان والي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر، قال في مقابلة أجرتها معه قناة “الحدث” ظهر الأربعاء، إن مدينة الجنينة تعرّضت لاستباحة كاملة من قِبل قوات الدعم السريع والمليشيات المسلحة المُسَانِدة لها.
التاريخ يعيد نفسه
يُذكر أنّ المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، كان قد أعلن يوم الخميس 27 يوليو 2023م، فتح تحقيق جديد في جرائم حرب بإقليم دارفور السوداني، داعياً إلى عدم السماح لـ”التاريخ بأن يُعيد نفسه”، قاصداً بذلك الحرب الأهلية التي وقعت في إقليم دارفور في مطلع الألفية الجديدة وأودت بحياة نحو 300 ألف شخص.
أوضاعٌ كارثيةٌ
بداية التوترات المتسارعة، تفجّرت في مدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور في يوم 17 أبريل بمقتل صاحب محطة وقود شرقي الجنينة، الأمر الذي أثار حالةً من القلق وسط السكان المدنيين سبقها في 15 أبريل 2023 اندلاع اشتباكات بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ومليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي، تركّزت في الخرطوم بدايةً، لكنها سرعان ما امتدَّت إلى مدن أخرى.
يقول محدثي وهو حقوقي شهير فضّل حجب اسمه تحوطاً لمخاطر متوقعة من استهداف مليشيات الدعم السريع لعائلته التي لا تزال موجودة في مناطق الخطر والصراع الدامي.
في حوالي الساعة الثامنة من صباح يوم 24 أبريل، كان يُصادف ثالث أيام عيد الفطر المبارك، سمعت دوِّي إطلاق نار إثر مناوشات اندلعت بين قوات الدعم السريع ووحدة من الجيش السوداني تتمركز في شمال الجنينة.
بالتزامن مع هذا الهجوم، قامت الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها بمُحاصرة مقر يتبع للجيش السوداني ضمن القوات المشتركة السودانية – التشادية، لكثافة الهجوم اضطرت فرقة الجيش للانسحاب إلى حي الجبل مربع (2) وإخلاء تمركزاتها، ولكن قوات المليشيات واصلت هجومها على الجيش في حي الجبل أيضاً لساعات طوال، استخدمت في عدوانها صنوفاً من الأسلحة الثقيلة، مما تسببت في إصابات ومقتل عدد من المدنيين العزل الأبرياء.
استهداف المساليت
وعقب ذلك يقول شاهد العيان، وجهت الدعم السريع والمليشيات العربية، نيران أسلحتها إلى سكان المناطق التي تقطنها أغلبية من المساليت في جنوب المدينة. ووصل بعض رجال المليشيات العربية، الذين كانوا يرتدون الكدمول، على ظهور الخيل أو على دراجات نارية أو على متن سيارات لاند كروزر مغطاة بالطين.
ويتابع: “في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، هرع المئات من سكان المساليت إلى مستودعات الأسلحة الخاصة بالشرطة. وفتح رجال الشرطة، وبعضهم من المساليت، الأبواب واستولوا عنوةً على الآلاف من بنادق الكلاشنكوف التي تُقدّر بـ10 آلاف قطعة سلاح”.
ويقول: “انفلت الوضع الأمني تماماً في المدينة من عمليات فوضى وتمّت سرقة سوق الجنينة بطريقة ممنهجة استمرت لثلاثة أيام متتالية”.
وحدثت مُواجهاتٌ بين المدنين والمليشيات والدعم السريع، ثم انتقلت الهجمات إلى حي التضامن وبدأت الذخيرة تتساقط من حي الجبل مربع 1 على حي التضامن وحي الثورة بكثافة وانتشر قناصة بدأوا يحصدون المدنيين، وتحوّلت الهجمات من طرفين أي الجيش والدعم السريع إلى مُهاجمة المدنيين.
وزاد: “الهجمات كانت بصورة مُرتّبة ومُخطّطة بين الدعم السريع ومليشيات الجنجويد التي تعاونت معها في ارتكاب فظائع وجرائم ضد الإنسانية، وتم فرض حصار مُحكم على مدينة الجنينة وإغلاق المداخل والمخارج، وأُغلق الطريق الرابط بين الجنينة وأدري على الحدود التشادية البالغ 28 كيلو متراً ومُنع المواطنون من المغادرة”.
ويضيف: إن المهاجمين حاصروا في البداية المدينة، وحرقوا السوق، ومنعوا الطعام والإمدادات الطبية من الوصول إليها. ثم تقدم رجال المليشيات، وبطريقة منظمة لتدمير أي شيء: مستشفيات ومدارس ومحطات توليد كهرباء ومراكز الاتصالات التي يعتمد سكان الجنينة في غرب دارفور للبقاء.
ويواصل الراوي: “المشهد في غاية الصُّعوبة، قنّاصة يستهدفون الرجال والشباب والنساء حتى في مواقع مصادر المياه، وما رأيته بعيني كشاهد عيان عملية تجويع وإفقار وتصفية لقبيلة المساليت بصورة بشعة لا يتصوّرها العقل ولا الضمير الإنساني”.
تصفية محامين بطريقة وحشية
وذكر مصدري بأنّ عمليات التصفية واستهداف مثقفي قبيلة المساليت الممنهج، خاصةً المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين، خاصة المحامين الذين كانوا يتابعون بلاغات ضد قوات الدعم السريع، وهم أربعة أحمد محمد أحمد كودي ناشط حقوقي، طارق حسن يعقوب الملك رئيس هيئة الاتهام في مجزرتي كردنق الأولى ، الصادق محمد أحمد هارون سكرتير هيئة الإتهام في مجزرتي كردنق الأولى و مفوض العون الإنساني غرب دارفور، خميس أرباب إسحق الذي تم تعذيبه بصورة وحشية لا إنسانية، حملت تفشياً غير طبيعي، حيث وُجدت جثته في مايو 2023 عليها آثار التعذيب، بل قام المجرمون باقتلاع عينيه.. صمت مصدري هنيهةً من شدة الوجع والألم والمأساة التي شهدها، وتساءل هل هؤلاء بشر؟ ولماذا كل هذا الغل، القتل والاغتصاب وجرائم أخرى؟!
وقال تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش نُشر في 17 أغسطس، إنّ الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها اغتصبت عشرات النساء والفتيات في الجنينة وهاربات إلى تشاد بين أواخر أبريل وأواخر يونيو 2023. يبدو أن المهاجمين استهدفوهن بسبب انتمائهن إلى إثنية المساليت، وفي بعض الحالات، لأنهن كن ناشطات معروفات.
وذكر التقرير “يبدو أن المهاجمين استهدفوا الناس لأنهم من عرقية المساليت، وفي بعض الحالات، لأنهم كانوا نشطاء معروفين”. وهو ما يعضد حديث الناشط الحقوقي في استهداف قيادت أهلية ومجتمعية، بل ذهب الوضع لأبعد من ذلك من خلال قائمة بأسماء 100 من هذه الشريحة هو من بينهم ضمن فيها، وصدرت توجيهات من قيادات عليا بقتلهم جميعاً ومنح أي فرد من مليشيات الدعم السريع يُوثِّق لعملية اغتيال مبلغ مليار جنيه!!
كان عدد سكان الجنينة قبل الحرب حوالي 538 ألف نسمةما بين 24 أبريل و15 يونيو من العام 2023، وقعت هجمات متعمدة متكررة على المدنيين في الجنينة، نفّذت معظمها الدعم السريع والمليشيات العربية المتحالفة معها، واستهدفت بشكل أساسي السكان من إثنية المساليت.
تفاصيل تقرير لجنة الخبراء
لجنة خبراء تابعة للأمم المتّحدة، حذّرت في تقرير اطّلعت عليه وكالة فرانس برس، صادر في 23 يناير الماضي من أنّ ما بين 10 آلاف و15 ألف شخص قُتلوا منذ أبريل في مدينة الجنينة، متّهمة مليشيا الدعم السريع ومليشيات عربية حليفة لها بارتكاب فظائع يمكن أن ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية.
لكنّ التقرير يتحدّث بالتفصيل عن صنوف العنف “العرقي” الذي دارت رحاه في الجنينة.
ويقول التقرير إنّ الهجمات تمّ تخطيطها وتنسيقها وتنفيذها من قبل قوات الدعم السريع ومليشيات عربية متحالفة معها، ويضيف أنّ هذه القوات استهدفت عمداً أحياء مدنيّة (…) ومخيّمات للنازحين ومدارس ومساجد ومستشفيات، ونهبت أيضاً منازل ومواقع لمنظمات غير حكومية دولية ومنظمات تابعة للأمم المتّحدة.
وتوضح الوثيقة أنّ قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها استهدفت عمداً مجموعة المساليت العرقية الأفريقية التي تُشكِّل الأغلبية في مدينة الجنينة.
ولفت التقرير بالخصوص إلى أنّ قوات الدعم السريع وضعت قنّاصين على الطرق الرئيسية لاستهداف المدنيين بدون تمييز، بمن في ذلك النساء، والنساء الحوامل والشابات.
ومن بين هذه الانتهاكات، شنّ هجمات ضدّ مدنيين وارتكاب جرائم تعذيب واغتصاب واعتقالات جماعية وتهجير قسري وأعمال نهب.
من جهتها، قالت بلقيس والي، المديرة المساعدة في قسم الأزمات والنزاعات في هيومن رايتس ووتش: “يبدو أن قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها مسؤولة عن عدد هائل من حالات الاغتصاب وغيرها من جرائم الحرب أثناء هجومهم على الجنينة”.
كما وصف رئيس هيئة محامي دارفور صالح محمود، أحداث الجنينة بأنها “تطهير عرقي وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية”، قاطعاً بتحمُّل طرفي الحرب وحلفائهما من المليشيات القبلية للمسؤولية الكاملة عنها.
عموماً، صارت الجنينة والقرى المتاخمة لها في غرب دارفور بمدن الأشباح، بعد أن فر المواطنون العزل منها وتركوا الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها تعيث في الأرض فساداً، ترى هل لا زال السودانيون والمجتمع الدولي يذكرون حجم هذه المأساة أم أنها صارت في قيد النسيان..؟!