
شهدت القاهرة ثلاث ورش عمل مهمة للغاية، تمهيدًا لمؤتمر الاستثمار المصري السوداني الثاني الذي يُعقد الشهر المقبل (ديسمبر 2025). الورشة الأولى كانت عن الصناعات الغذائية والدوائية في مصر والسودان، والثانية عن النقل والمعابر بين البلدين، والثالثة (أمس) كانت عن التكامل المصرفي.
الورش الثلاث نظّمتها الشركة المصرية السودانية للتنمية والاستثمار متعدد الأغراض، تقاسم الحديث فيها الجانبان المصري والسوداني، وشهدت حضورًا نوعيًا كبيرًا حسب التخصصات التي تُناقَش في كل ورشة، حتى كادت القاعة الكبرى في مركز المنارة للمؤتمرات الدولية تفيض بالحضور، وهو تحفة معمارية راقية في قلب القاهرة الجديدة.
خلاصة ما استمعتُ إليه كشفت لي أن هناك مشكلة حقيقية لا تزال غير مطروقة تقف عائقًا في طريق تطوير العلاقات بين شطري وادي النيل.
الفارق كبير جدًا حضاريًا وصناعيًا واقتصاديًا بين مصر والسودان، ومصر لا تزال تخطو بسرعة، بينما السودان – الذي كان أصلًا يعاني تخلفًا كبيرًا – جاءت الحرب لتزيده ضغثًا على إبالة.
الفجوة كبيرة وتزداد اتساعًا يومًا بعد يوم، مما يجعل الحديث عن علاقات «طبيعية» بينهما فيه كثير من عدم الواقعية. كأنما المطلوب من مصر – وهي تقفز نحو المستقبل – أن تجرّ وراءها حملًا ثقيلًا أشبه بصخرة مغروسة في الأرض.
واقع يجب أن نعترف به؛ لنتمكّن من مجابهته وتجاوزه.
عندما كنا طلابًا في الجامعات المصرية منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كانت نغمة «التكامل» بين البلدين سائدة ورنّانة، ولها بريق سياسي كبير. وأصدر البلدان «بطاقة التكامل» التي أُطلق عليها «بطاقة وادي النيل» لتسمح بحركة المواطنين دون الحاجة إلى تأشيرة دخول. وتأسّست شركات مشتركة، ومشاريع «التكامل الزراعي» في السودان، بل وصل الأمر إلى تشكيل برلمان وادي النيل من مجلسي الشعب في البلدين، واتفاقية دفاع مشترك.
لكن كل ذلك انهار بـ«جرّة قلم» بعد الإطاحة بنظام النميري، وثبت أن «التكامل» بكل رنينه وبريقه ما هو إلا محض قرارات سياسية قابلة للطي عند أول ملف سياسي.
يبقى السؤال الآن، وبعد كل تلك التجارب: هل لا نزال نتحدث عن «تكامل»؟
ورشة أمس كان عنوانها الرسمي: «تكامل النظام المصرفي المصري السوداني».. عنوان استُمدّ من الذاكرة السياسية لـ«التكامل» المصري السوداني، رغم فشله في الصمود أمام رياح التغيير السياسي في السودان.
في تقديري، حان الوقت للتخلّص نهائيًا من هذه المفردة: «التكامل».. خاصة مع الفجوة الهائلة بين البلدين في كل المجالات. عمليًا لن يخرج التكامل عن نطاق العواطف المشتركة: تكامل الحب والوئام.. لا أكثر.
الأفضل أن نتجه نحو «التحالف».. تمامًا كما تفعل شركات الطيران التي تربط خطوطها بحيث تبدو كأنها تعمل بإدارة وخدمة واحدة، مع المحافظة على استقلال كل شركة كاملًا.
«التحالف المصري السوداني» يعني تغيير نمط العلاقات من ثنائية (Bilateral) إلى متعددة الأطراف (Multilateral).
مفهوم العلاقة بين البلدين سيتغيّر تمامًا وفق هذه الرؤية التي سأوضح تفاصيلها لاحقًا.


