
في رائعة الفنان محمد الأمين «الملحمة» مع الشاعر هاشم صديق رحمهما الله، البيت الأكثر ترداداً وإثارة في النشيد:(وكان القرشي شهيدنا الأول..) حينها كانت الشهادة علامة تاريخية فارقة.. حتى ولو كان طالباً جامعياً واحداً مثل القرشي.
لكن تاريخ السودان توغَّل أكثر.. في الحقب السياسية التي تعاقبت على الحكم، كانت قوافل الشهداء تزداد طولاً.. ثم جاءت محرقة دارفور لتحوِّل الآحاد والعشرات إلى آلاف.. ثم مئات الآلاف.
وأخيراً، في صباح السبت 15 أبريل 2023، اندلعت المحرقة الكبرى التي لم يشهد السودان مثلها من قبل، وأنجبت ما وصفته الأمم المتحدة بأسوأ كارثة إنسانية في التاريخ، ويقترب العدد سريعاً من الستة أصفار.. ما بين شهيد وقتيل بالرصاص أو بالجوع أو بالأمراض والحميات، وحتى الذين لا يجدون مؤسسات رعاية طبية أو دواء فيرحلون في صمت.
مساء أمس الأول طالعنا – مثل غيرنا – في وسائل التواصل خبر تحطُّم طائرة شحن عسكرية قرب مطار بورتسودان. ربما في زخم تداعيات الحرب واتساع الجبهات من أقصى الغرب إلى أقصى الجنوب، وصدى هجليج يصمُّ الآذان، كان خبر فاجعة الطائرة جزءاً من صورة شاملة.
ولكن حوالي منتصف الليل أبلغنا الأهل أننا فقدنا أحد أنجب أبنائنا.. فتى بارٌّ بوالديه، محبوب بين أهله وزملائه، رفيع الأخلاق والسيرة.. ابن أخي، الشهيد عمران علي ميرغني. كانت صدمة مؤلمة لكل الأهل، رغم أنه كان من اليوم الأول للحرب في خط النار، لم يتراجع ولم يتكئ ليرتاح ولو قليلاً، ويحوم الردى حوله من كل جانب.. إلا أننا لم نكن نتصور أن تأتي لحظة نضع أمام اسمه كلمة «الشهيد».
لم يكن وحده، ففي مثل عمره وأصغر كانوا رفقاء الطائرة التي تحولت إلى مقبرة.. وبكل يقين في مواقع أخرى كثيرة تمضي قوافل الشهداء يومياً.. وحتى في المناطق البعيدة عن خطوط النار، في ولايات مستقرة نسبياً، يرحل الآلاف في هدوء نتيجة هذه الحرب المجنونة.
نعم، شبابنا يدافع عن المواطن والوطن.. يصونون السيادة والعرض والأرض.. ويدفعون أرواحهم ثمناً لأنبل هدف: من أجل الآخرين كي يتمتعوا بالحياة الآمنة الكريمة. لكن في المقابل فإن واجبنا جميعاً أن نُخفِّض هذه الفاتورة ونعمل على الوصول إلى الأهداف بأقل التكاليف البشرية والمادية.
العسكريون مهمتهم أن يخوضوا غمار الحرب طالما كُتبت عليهم، لكن نحن المدنيين مهمتنا أن نعمل من أجل السلام وتحقيق الأهداف ذاتها بأيسر وأسرع وأفضل الطرق وأقلها تكلفة.
شهيدنا عمران مضى إلى ربه مدافعاً عن وطنه وشرف شعبه، كما فعل عشرات الآلاف قبله، تاركاً لنا أمانة أن نعمل بكل ما أوتينا من قوة لنجعل 2026 عاماً فيه يُغاث الناس وفيه يُعصرون.
فلنتحد لنجعل شمس السودان تشرق قمحاً ووعداً و تمني في العام الجديد..
رحم الله عمران وصحبه، وكل شهداء السودان،


