
في زيارة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية.. بدعوة من وزارة الخارجية عام 2007. ومن ضمن برنامج طويل لعدة أسابيع ومزدحم يوميًا باللقاءات والاجتماعات من الصباح حتى منتصف الليل.. التقينا في مقر وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” بجنرال كان يشرح لنا السياسات الدفاعية الأمريكية.. سألته: لماذا قصفتم مبنى شركة الشفاء للأدوية في الخرطوم؟ رغم علمكم أنه لا علاقة لها بتصنيع الأسلحة الكيميائية؟
لم يتردد.. رد عليّ سريعًا: (مهمتنا في الجيش أن نجد الموقع المستهدف، ثم ندمره.. أما لماذا فعلنا ذلك، فأرجو توجيه السؤال لمن تجلس هنا في هذه القاعة بجواركم.) وكان يقصد مندوبة وزارة الخارجية المرافقة لنا خلال الزيارة.
الجنرال يقصد أن مهمتهم العسكرية تقتصر على الذراع الطويلة التي تمتد للوصول إلى الأهداف.. لا البحث عن الحيثيات التي تبرر ذلك الفعل.. بعبارة أخرى، مهمة الجيش الحرب وليس السياسة.
اعتدت في لقاءاتي مع شتى الوسائط الإعلامية أن أجد نفسي في مواجهة سؤال: (لماذا يرفض الجيش السوداني المفاوضات والحل السلمي؟) كنت أرد دائمًا.. الجيش ليس مهمته الحلول السلمية.. بل العسكرية.. فهو لا يفتي في مساعي السلام.. لأن مهمته تقتصر على إحراز النصر في المعارك لا قاعات التفاوض.
وفي تقديري هنا المشكلة الأساسية.. السؤال الحقيقي: من يملك قرار السلام والمفاوضات؟ وأداة الاستفهام “من” تشمل الأشخاص والمؤسسات.
هل رئيس مجلس السيادة هو المسؤول الأوحد عن اتخاذ القرار في شأن المفاوضات؟
أم مجلس السيادة، مجتمعًا بصفته أعلى هيئة سيادية؟
أم مجلس الدفاع والأمن؟
أم مجلس الوزراء؟
من الواضح أنه ليس هناك إجابة قاطعة.. مجلس السيادة لا يجتمع بصورة دورية أو منتظمة لمناقشة مثل هذه القضايا.. ومجلس الدفاع والأمن يتلقى الدعوة في القضايا المحسومة مسبقًا، والهدف من دعوته للإخراج الإعلامي لا أكثر.
وفي كثير من الأحيان تحسم القضايا على منصات الخطابات الجماهيرية المرتجلة..
مثل هذا الوضع يغيب الدولة المؤسسات ويعلي القرارات المرتجلة الفردية.. مما يجعل السودان في “حالة تيه” كسفينة في عرض البحر بلا بوصلة.
ما هي المشكلة في أن يكون للدولة مؤسسات حقيقية تصنع القرار وفق ضوابط معيارية تتوخى دراسة مستفيضة لكل السيناريوهات والاحتمالات ثم البحث عن أفضل الخيارات؟
ما المعضلة في ذلك؟
لماذا لا تسند قضايا المفاوضات والتسوية السياسية الى هيئة مستقلة تضم الخبراء من مختلف التخصصات ذات الصلة.. لتقود بوصلة الدولة في خيارات الحلول السلمية التفاوضية؟
هذه مهام تتطلب دوجة عالية من الدراسة العميقة و البصيرة الاستراتيجية و التفرغ ..
مثل هذا السلوك يقوي الدولة ومؤسساتها وقياداتها.. وعكسه يضعف الدولة ومؤسساتها وقياداتها مهما ظن البعض في الفردانية قوة.


