
أمس، في العاصمة الكينية نيروبي، وقّعت مجموعة من «القوى المدنية والسياسية والثورية السودانية وشخصيات وطنية» اتفاق إعلان مبادئ يؤسس لرؤية سياسية لبناء وطن سوداني جديد قائم على المواطنة المتساوية، والديمقراطية، والعدالة. ومعها توقيعات أخرى على مذكرة قانونية تطالب بتصنيف الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني وواجهاتهما منظمات إرهابية.
لو وضعنا عنواناً لهذا الخبر ونشرناه بلا تاريخ، لربما ظنّ كثير من القراء أنه قديم؛ ربما قبل الثورة، أو خلال حكومة الفترة الانتقالية، أو بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، أو ربما بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023.
الخبر قديم متجدّد، وغداً قد نقرأ خبر توقيع إعلان مبادئ أو اتفاق أو ورقة أو ميثاق أو أي مسمّى آخر. لا تختلف إلا في المكان والزمان؛ مكان التوقيع في خيارات بين عواصم و مدن من مثل نيروبي وأديس أبابا وجنيف، وتاريخ متغيّر قد يكون أمس أو اليوم أو غداً.
القوى السياسية السودانية لا تتعب من التوقيعات والمؤتمرات وورش العمل وغيرها.. دون أن تحاول الإجابة على السؤال الحتمي: ثم ماذا بعد هذا؟
ما هو الناتج النهائي من كل هذه التوقيعات؟
بكل يقين، لا أحد يطرح السؤال ولا أحد يتوقع الإجابة عليه.. لسبب بسيط مدهش: في الملعب السياسي السوداني ليس مطلوباً الفعل المنتج بقدر ما هو مطلوب الصيت والإعلام حتى بلا ناتج ملموس. تنشر وسائل الأخبار صور لقاءات بوفود أوروبية وأمريكية وغيرها.. واستضافات في منابر الاتحاد الأوروبي أو البرلمانات الأخرى.. وفي النهاية، لا يتغير شيء ولا تبدو في الأفق ملامح جديدة.
التوقيع على مذكرة هو فعل مستقل عن أية مترتبات أخرى ملحقة به. ينتهي بانتهاء مراسم حفل التوقيع. ولو أردتُ هنا أن أسرد عليكم قوائم المذكرات السياسية التي احتفلنا بتوقيعها، فلن يتسع لها المكان.
هذا ناتج من أمرين:
الأول: أن عقيدة العمل السياسي في السودان لا تعتد بدرجة «فاعلية» الفعل، وليس مدرجاً في معيار نجاح العمل أية مقاييس لتأثيره على الواقع أو مردوده الفعلي، بما يجعل المنافسة دائماً في التقاط الصور والتوقيعات فقط.
والثاني؛ أن القطاع السياسي السوداني يظن ان توقيع ورقة وحده كاف ليحل الازمة.
وبالنظر للوثيقة التي وقّعت عليها هذه القوى السياسية أمس، فما المنظور بعدها؟
قرأت تعليقاً لبعض القادة السياسيين من المجموعات التي وقّعت على الوثيقة، وصفتها بأنها «تجميع للقوى المناهضة للحرب»، وأنها «أكبر تجمع يرفع شعار لا للحرب». وهبْ أن ذلك صحيح، فما الخطوة التالية؟ ما هو المسار حتى الوصول للهدف النهائي؟
مهما كانت الإجابة، فإنها لن تخرج عن المتوفر في الأسواق مسبقاً، الذي ظلّ يُردّد بعد كل حفل توقيع.
من الحكمة أن تدرك القوى السياسية السودانية أن الواقع اليوم يتطلب «اختراقاً» حقيقياً لوقف الحرب وبدء بناء دولة السودان الحديثة.
وكلمة «اختراق» لن تتحقق إلا إذا كان الجميع قابلين وقادرين على الخروج عن المألوف.. واتخاذ القرارات التي تتطلب درجة من الشجاعة والجَلَد السياسي.
هل يتوفر ذلك؟
حتى الآن، لا أرى في عتمة الظلام شعاع جرأة سياسية.


