د.عبد الله علي إبراهيم (وقع فصلي لعام من جامعة الخرطوم في 1963 ضمن لجنة اتحاد طلابها التي كنت سكرتيراً لها عن الجبهة الديمقراطية. وهي السنة التي تعرفت فيها على المرحوم التهامي محمد عثمان، العامل بالري المصري، ومن قادة اللواء الأبيض ليقضى سنتين حكماً بالسجن لقيادته مظاهرة لها.
وبدأت العلاقة بعد حضوري لمحاضرة له في القاعة 102 بكلية الآداب عن ثورة 1924 رتبت لها جمعية الثقافة الوطنية بإرشاد من فاطمة أحمد إبراهيم التي لا اعرف كيف عرفت عنه. وكان التهامي مثيراً إذ اصطحب ابنتيه الطالبتين، ثريا وسعاد، إلى المحاضرة. ولتعلقي بالتاريخ دعوته ليحاضر تلاميذي بمدرسة الجمهورية الوسطى لصاحبها عبد الحفيظ هاشم التي كانت عند مقابر حمد النيل بأم درمان وبأعلى فريق الصقور. وكنت تعينت بها خلال سنة الإيقاف لتدريس الإنجليزية بها. وبالفعل جاءنا. وحاضرنا. وأذكر أنني رتبت مع تلاميذي أن نقدم له هدية في ختام المحاضرة عبارة عن علم جمعية اللواء الأبيض الذي كنت أخذت تفاصيله عنه في محاضرة الجامعة. ثم جلست إليه مراراً في داره أدون عنه روايته كممارس في الثورة وشاهد عيان. ولا تسألني ما جرى لأوراق ذلك التدوين. لا. ولكن استنقذت منها الكلمة التي ستجدها أدناه وعنوانها “حول السلوك الطبقي في ثورة 1924” ونشرتها في مجلة “صوت المرأة” التي حررتها فاطمة أحمد إبراهيم. وظني أنها واحدة من اثنتين ولم أجد الأخرى في أرشيف المجلة الناقص في دار الوثائق. وربما أطلب بشيء من اليأس ممن امتلك أرشيفاً للمجلة لسنة 1963 أن يفتش عن مقالي الثاني (الذي أتمنى ألا يكون متوهماً). واتصل الود بيني وبين الأسرة إلى يومنا. بل وفرت لي ملاذاً في السبعينات حين كنت في طي الاختفاء كادراً تحت الأرض بالحزب الشيوعي. وتوثقت العلاقة بزواج صديقي المرحوم محمد عبد الله عجيمي من سعاد. وتكلمت إلى ابنته حفيدة التهامي تونا منذ أيام. ورحم الله ثريا التي ترقت في الاتحاد النسائي حتى صارت في قيادته. فجزاهم الله عني كل خير: أطعموا العقل والقلب والخاطر والفم).
ما يعيب الدراسة التاريخية في بلادنا هو نزوعها الدائم للتعميم الذي يقعد بها عن استبطان الأحداث والتغلغل في أعماقها واستبصار حركتها المتطورة وتحديد اتجاهات وسلوك القوى الاجتماعية المختلفة فيها. هذا العيب فيما اعتقد يرجع إلى أن الحركة الوطنية في كل مراحلها كانت تنبهر أمام تاريخ بلادنا وانتفاضات شعبنا فتستلهم كل ذلك بروح إثارية تستهدف تذكير الناس بماضيهم لتحرضهم وتستحثهم وتملأهم حماسة ولسان حالها يقول: “فيما الرقاد! انظروا إلى سلفكم العظيم”. كان هذا هو أفق الدراسة التاريخية وقد صاحبتها حركة تسجيل للتاريخ لم ترق لمضمون هذا الأفق، بل غاصت في بطون مؤلفات الاستعمار عن تاريخنا ولم تخرج عن هذه الحدود.
كان السؤال الذي يلح على وأنا استمع للعم المجاهد، التهامي محمد عثمان أحد أبطال جمعية اللواء الأبيض، هو: ما علاقة القوى الاجتماعية المختلفة باللواء الأبيض، وما هو سلوكها السياسي خلال هذه الحركة؟ هل عبر مثقفو العشرينيات، طلائع البرجوازية الوطنية، عن سمات السلوك السياسي التقليدي لهذه الطبقة أم أن الأمر غير هذا؟ كان مبعث سؤالي أنني استمع ولأول مرة لوجهة نظر عامل، والعم التهامي ما يزال عاملا بالري المصري، أسهم في ثورة ١٩٢٤ ومكث بكوبر مدة خمس سنوات وطارده الاستعمار من بعد. فقلما كان يبقى مع مقاول أكثر من شهر يتشرد بحجة أن العمل. قد انتهى وكان العم التهامي يدرك حقيقة الأيدي التي تلاحق وتأمر.
حادث صفير ذكره لي العم التهامي فأضاء متاهات التعميم التي غلفت تاريخ اللواء الأبيض وأبان الطريق لتساؤلاتي. هذا الحادث هو اجتماع قيادة فيما بين مظاهرة ٢٣ يونيو و٢٦ يونيو. أعقب مظاهرة ۲۳ یونیو ١٩٢٤ اعتقال قادتها وزج بهم في كوبر.
فاجتمعت قيادة اللواء الأبيض لمناقشة الموقف ولاتخاذ ما تراه مناسباً في تلك الظروف. برز في ذلك الاجتماع اتجاه يقوده المثقفون، طلائع البرجوازية الوطنية، لفرملة العمل السياسي وإيقاف المظاهرات بحجة التريث لمعرفة مصير قادة مظاهرة ٢٣ يونيو، ولأن اللواء الأبيض قد عبرت عن الشعور العام وهذا يكفي حتى تلتقط أصداء هذا التعبير في مصر وفي حكومة السودان.
وكاد هذا الاتجاه أن يسود حيث رحبت به الأغلبية حتى وقف العم التهامي محمد عثمان وشن حملة مركزة على هذا الاتجاه. وذكّر قادة اللواء بقسم المنظمة القائل بأن أعضاء اللواء ملزمون بإدراك زملائهم مهما كلف ذلك، وأن الانتظار تقاعس ما بعده تقاعس. هنا تغير الموقف لصالح الاتجاه الذي تبناه التهامي ووقف أحمد “أقف؟” المهندس بالري المصري، و
شد على يد العم التهامي الذي تطوع بقيادة المظاهرة القادمة التي حدد لها يوم ٢٦ يونيو رغم أن دوره في القيادة لم يأت بحكم وضعه في القيادة الرابعة. بارك الاجتماع هذا الاتجاه وطلب منهم العم التهامي أن يذيعوا وسط الناس أن مظاهرة مسلحة ستندلع من غابة بحر أبيض. وشاع ذلك بين الناس وسارعت الحكومة وحشدت كل قوى البوليس بالعاصمة في الغابة وزودتها بالسلاح. وخابت تقديراتها حين اندلعت المظاهرة في السوق ووفرت لها تلك الظروف الاستمرار لمدة أطول.
ما أثارني من جديد هو تغيب الذين باركوا ذلك الاتجاه في الاجتماع بعد أن تنازلوا عن حجج التريث والانتظار من قيادة المظاهرة حيث لم يكن في قيادتها سوى العم التهامي وعبد الكريم السيد (عامل ). وما أثارني أكثر هو اتجاه المظاهرة نحو الأحياء الشعبية حيث فُرقت في مكان موقف باصات الحلة الجديدة الآن بالسوق العربي. واعتقل العم التهامي وحُمل إلى كوبر وهو يحتضن علم اللواء الأبيض حتى دخل السجن وقدمه (أي العلم) لمأمور السجن المصري الجنسية كأمانة ترد إليه عند خروجه من السجن.
والمؤلم أن العلم ما يزل في أمانات كوبر لم تجد محاولات العم التهامي لاسترداده ذكرى لأيام مضت. إن هذا الطور من أحداث اللواء الأبيض ليلقي أكثر من ضوء على السؤال الذي افتتحت به الحديث. لقد كشف مثقفو العشرينيات، طلائع البرجوازية الوطنية، عن الجوانب السلبية التقليدية في طبقتهم الاجتماعية وهي التردد وأعمال الفرامل في الحركة السياسية حين تصطدم بالسلطة اصطداماً مباشراً. وانبثقت تبعا لذلك نغمة التريث والانتظار والتي كادت أن تسود لولا أن برز عنصر عمالي حمل الراية، وقاد المظاهرة، وتمرد على ضيق حلقات المثقفين. فانبرى ليلتصق بقاعدة شعبية عريضة وذلك حين تحرك بمظاهرته نحو الأحياء الشعبية. فوضع ذلك العنصر بذرة صغيرة لدور اضطلعت به الطبقة العاملة في نضال الأربعينيات. ولم يكن اتجاه مظاهرة ٢٦ يونيو ١٩٢٤ سوى الرمز لواجب تهيأت له الظروف فيما بعد.
على الدراسة التاريخية الجادة أن تثري وجدان الناس لا بالتعميم، أو بتقديس العمل السياسي الوطني وأخذه بالإجلال. ليست دراسة للتاريخ تلك تملأ الناس حماسا أجوفًا بإغفالها سلبيات العمل الوطني. إن الدراسة التاريخية الرشيدة هي التي تبصر الناس أكثر وتضيف لحركة الحياة حيوية النمو، لا التي تدفعنا إلى أن نبكي على تعاسة الأحياء حين تبهرنا قداسة السلف الصالح. عبد الله علي إبراهيم مدرسة الجمهورية الوسطى (1963) التهامي محمد عثمان