إسْتَفاقَ (صديق) ذو الـ(14) عامًا بمنزل خاله في منطقة أم درمان الثورة الحارة (54) على طرق باب الغرفة ونداء شقيقه الأكبر (مجدي) بصحبة شخصين من أقرانه الذين تجمعهم جغرافيا واحدة في شمال دارفور وهم من أبناء مدينة الفاشر، محدثين جلبة مفزعة.
تقرير – خاص المنبر 24
قبل أن يستجمع قواه أصابته الصدمة برؤية أحد المرافقين لشقيقه، فرافق شروده إلى الحديث الذي دار بين أربعتهم قبل أكثر من أسبوعين بغرض الانضمام لمليشيا الدعم السريع، قبل أن يفوق صديق من دوامة التفكير، وجد شقيقه (مجدي) قد أكمل طرحه المقنع “حنمشي مع الجاهزية ديل عشان نقدر نعيش ونرسل مصاريف لناس البيت، وذي ما عارف شغلي مع خالك شبه وقف كمان بقيت قاعد بدون قراية شغل، ده الحل الوحيد القدامنا يا أخوي”، ولأنه لم يكن هنالك ما يفعلونه في تلك المنطقة في الأشهر الأولى من الحرب، المدارس مُغلقة والعمل بالأسواق بالكاد يوفر بعض الجنيهات إن وٌجد، قرر صديق الامتثال لقرار شقيقه بالذهاب حيث تتوفر بعض الضمانات هناك، أبرزها إعاشة وراتب يغطي بعض النفقات وإعالة أهاليهم، وربما سيمنحهم الذي العسكري والسلاح هيبة تشعر بالفخر.
من أجل البقاء
تسببت حرب الخامس عشر من أبريل، الكثير من التحولات في بنية المجتمع بسبب توقف عجلة الدولة الاقتصادية، وأصاب الخلل الكثير من الأنظمة والخُطط الاقتصادية لآلاف الأسر، فقذفت الحرب بالكثير من الأطفال داخل الأسواق للبحث عن مصدر رزق لدعم أسرهم، مُجربين كل الخيارات التي تُتاح لهم، وتختلف الخيارات بين منطقة وأخرى وفق نقاط سيطرة الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع.
وجد الأطفال مصيرهم وحياتهم عرضة للاستدراج والاختطاف وأفظع الانتهاكات، فلا خيار أمامهم للبقاء سوى الاستسلام للواقع الذي فُرض عليهم جراء حرب 15 أبريل 2023م، فمن لم ينهي به المطاف بين صٌفوف مليشيا الدعم السريع مرغمًا فقد حياته ضمن ضحايا الحرب أو نال منه التشريد لمصير مجهول الوجهة بين مخيمات النزوح واللجوء داخل وخارج السودان، وقلة من المحظوظين منهم بين أحضان أسرهم في ظروف متفاوتة.
وفي فبراير من هذا العام أكد تقرير مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أن “قوات الدعم السريع جندت الأطفال من القبائل العربية في دارفور وكردفان”.
بينما تشير منظمة (اليونسيف) إلى أن آلاف الأطفال الذين يتمّ تجنيدهم واستخدامهم في النزاعات المسلحة في جميع أنحاء العالم، على أنهم “الجنود الأطفال”، يعاني هؤلاء الأطفال من أشكال واسعة النطاق من الاستغلال وسوء المعاملة، بما في ذلك التعرض للعنف الجنسي.
حظر تجنيد الأطفال
لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة تعبر عن قلقها المستمر تجاه الانتهاكات المرتكبة ضد حقوق الأطفال في الحياة والبقاء والتعليم والنمو، حيث يحتاج 14 مليون طفل إلى مساعدات إنسانية في السودان، وقالت إن ظروف الأطفال المزرية مع النقص الحاد في الغذاء ومياه الشرب النظيفة، جعلت 3.7 مليون طفل يعانون من سوء التغذية بما في ذلك 730 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد، دون خطر التجنيد الذي يواجه أطفال السودان.
ذهب المحامي المعز حضرة في تصريحات صُحفية إلى أن “المادة 136 من القانون الدولي الإنساني، وعدد من المواد والقواعد الواردة في المعاهدات والبروتوكولات الدولية المشابهة تحظر تجنيد واستخدام الأطفال في القتال”
وتابع حضرة في حديثه: ” المعاهدات تعتبر هذا المسلك “جريمة حرب تستدعي المحاسبة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وبناءاً على ذلك تضاف أطراف النزاع التي تجنِّد وتستخدِم الأطفال بواسطة الأمين العام في قائمة العار التي يصدرها سنوياً”.
ووفق نشطاء في مجال حقوق الإنسان يشيرون إلى أن “مليشيا الدعم السريع تستخدم في صفها الأطفال ليس كمقاتلين فحسب، بل ككشافة وطُهاة وحمّالين وحرّاس وسُعاة، بل وأكثر”.
آفة الفقر
الباحث الاجتماعي فيصل محمد في حديثه لـ(المنبر24) يقول: “يصبح الأطفال جزءًا من قوة أو جماعة مسلحة لأسباب مختلفة، فبعضهم يتعرّض للاختطاف أو التهديد أو الإكراه من قِبَل جهات مسلحة”.
وأضاف: يدفع الفقر بآخرين واضطرارهم لجلب الدخل إلى الأسرة، وهناك من يرتبط بهذه الجهات من أجل البقاء أو لحماية مجتمعاتهم المحليّة، لكن بغضّ النظر عن أسباب تورطهم، فإن تجنيد الأطفال واستخدامهم هو انتهاك خطير لحقوق الطفل وللقانون الإنساني الدولي.
وأوردت شبكات حقوقية في تقاريرها أن “أكثر من 30 شاهدا، بينوا أن الدعم السريع “استخدمت الغذاء كسلاح وحجبت الإمدادات عن الجوعى، في محاولة لإجبار الرجال والفتيان على الانضمام لصفوفها.
وتمضي الإحصاءات إلى أن ما لا يقل عن 600 شخص، من بينهم 150 صبيا دون سن الثامنة عشر، انضموا لمليشيا الدعم السريع شرقي ولاية الجزيرة بدافع الجوع في حالات كثيرة، مؤكدين تجنيد نحو 150 آخرين، من بينهم 20 فتى، بشكل قسري في غرب ولاية الجزيرة.استدراج وتجنيد
رواية خال الأشقاء (م.ب.م) الذي فضل حجب اسمه، تكشف جانبًا قاتمًا من استغلال مليشيا قوات الدعم السريع للأطفال، حيث يروي لـ(المنبر24) بقوله: في مايو من العام 2023م اكتشفت أن أبناء شقيقتي تم تجنيدهم في صفوف قوات الدعم السريع.
تمكنت من التواصل مع أحدهم ثم توصلت للثاني، وبدأت رحلة التفكير في طريقة الخروج بهم لبر آمن بعيدًا عن هذه القوات وأيضًا بجانب آخر أنهم باتوا عرضة للاعتقال من قبل الاستخبارات العسكرية في حال وقعوا في أيدهم، أو التصفية من قبل الدعم السريع في حال رفضهم الاستمرار.
وفي رده على سؤالنا حول كيفية التجنيد يقول: كانت طريقة تجنيدهم بالإغراء من قبل زملائهم منذ وقت باكر في مدينة الفاشر قبل الانتقال للعاصمة، وزملائهم هؤلاء أكثر من 4 تتفاوت أعمارهم ما بين سن (13 – 17) عام تقريبًا، وبين (مجدي) لي أنه لا سبيل أمامهم وقتها غير الانصياع للطرح الذي وجدوه، مجدي كان يعمل معي في ورشة ميكانيكا السيارات بالقرب من سكني في منطقة صابرين، وهو ميكانيكي ماهر رغم صغر سنه، أما أخيه صديق يواصل دراسته ويعمل في الأشغال الهامشية في الإجازات.
وتابع: عرفت من (مجدي) الابن الأكبر لشقيقتي (سلوى) يبلغ من العمر 18 عام أنه يعمل في قيادة سيارة شخصية لأحد ضباط الدعم السريع بمنطقة شرق النيل، وفي كثير من الأوقات يتنقلون بين مناطق أم درمان وقرى الجزيرة وبحري، وعرفت أيضًا أن شقيقة الأصغر (صديق 16 عام) يعمل في الحراسة الشخصية ويقوم بقضاء واجبات الضباط في أم درمان ومنطقة دار السلام وقتها، وتتغير مواقعهم وفق تحرك القوات والقادة أثناء المعارك المستمرة.
ويضيف خال الأشقاء: وضعنا خطة لخروجهم، من ثم السفر خارج السودان والمكوث مع أخي الأكبر في احدى الدول المجاورة، ولكني بكل أسف فقدت التواصل معهم إلى هذه اللحظة، لا نعلم إن كانوا في تعداد الضحايا الذين فقدناهم جراء هذه الحرب، أم لا يزالوا أحياء، وتتبعت الأثر حتى على مستوى منازل معارفنا في شرق النيل وأم درمان فلا أثر لهم منذ شهر أغسطس من العام 2023، ولا نزال أحاول البحث عنهم.
وتابع: الأمر المؤسف حتى هذه اللحظة لم نٌخبر والدتهم ولا بقية أطراف الأسرة، فقط كنا نحاول أنا وأشقائي – أحدهم في الاستخبارات العسكرية في عطبرة والآخر خارج السودان – في سبيل الخروج الآمن بهم من صفوف الدعم السريع، وحتى إن وقعوا بين تعداد المعتقلين من قبل الجيش وقتها سيكون لنا وجه تصرف ولكن فقدان التواصل جعلنا في متاهة لا ندري كيف ومتى الخروج منها.
ويتذكر (م.ب.م) بقوله من الأمور الخطرة التي ذكرها لي (مجدي) إن هذه القوات كانت تستغل حتى صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل لنشر المحتوى التحريضي المصنوع من قبل الدعم السريع والمليشيا التابعة لها، وهو محتوى صادم وقاس لا يمت للإنسانية بصلة.
تخوفات ماثلة
وتشير التصريحات العسكرية إلى اتهامات مٌستمرة لمليشيا الدعم السريع بتجنيد الأطفال والزج بهم في الحرب والقتال، مطالبين بالتراجع عن ذلك المسلك الذي يتنافى مع الأعراف الدولية والقوانيين.
ونفى مصدر عسكري فضل حجب اسمه انتهاج الجيش السوداني ذات الأسلوب الذي وصفه بالقذر، مؤكدًا في ذات الوقت أن المقاومة الشعبية تمضي في جانب حماية البلاد والانضمام لها طواعية من قبل الشباب والمقتدرين على حمل السلاح، نافيًا وجود أطفال في صفوف المقاومة الشعبية، ذاكرًا بأن تلك ادعاءات تحاول بها المليشيا في حربها الإعلامية باللصاق مثل هذه التهم للجيش.
وتمضي تخوفات لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة من أن “تدخل الانتهاكات في السودان 24 مليون طفل في خطر كارثة الأجيال، بخاصة في ظل وجود 19 مليون طفل خارج المدارس.
وأشار التقرير: “تم تجنيد نحو 68 طفلا تتراوح أعمارهم بين تسع إلى 17 عاما من قبل مجموعات سودانية مسلحة، منهم اثنان من قبل الجيش السوداني”.ويضيف ذات المصدر العسكري “تجنيد الأطفال للحرب من الأعمال غير الإنسانية التي تميّزت مليشيا الدعم السريع الإرهابية مؤخرًا في حربها ضد الشعب والجيش السوداني، وقدمت نماذج سيئة القبح وأقحمتهم في الحرب، والجيش السوداني والجهات الحقوقية تملك كل الأدلة حول تورط المليشيا في هذه الجريمة البشعة.
نفي واتهام
في سؤالنا المطروح هل تقوم الدعم السريع بتجنيد الأطفال واقحامهم في الحرب في الخرطوم؟” مدفوعة بالشواهد واحصاءات التقارير الصادرة في ذلك، قائد ميداني فضلّ حجب اسمه أشار قائلاً: تجنيد الأطفال والدفع بهم لمناطق القتال مرفوض بنص كل القوانين الدولية، ونحن نعرف شراسة الحرب ولا يمكن اقحام الأطفال فيها.
وتابع: القول بأن الدعم السريع تقوم بتجنيد الأطفال، ليس هناك ما يدعمه في الواقع، بعض الأطفال يحاولون التشبّه بالقوات الموجودة في مناطقهم من دعم سريع ولبس (الكدمول) وصناعة أسلحة من الخشب، أو بعضهم يرافق والده أو أخيه الأكبر في (الارتكازت)، وهؤلاء ليسوا مسجلين في القوات بصورة رسمية ولا نعتبرهم جزء من القوة، أو يتم ادخالهم في المعارك التي بيننا والجيش، والتي نعتبرها جريمة يعاقب عليه القانون الدولي لحماية الأطفال في مناطق النزاعات.
وقف الانتهاكات
جُهود دولية تقوم بها منظمات المجتمع المدني في العالم، لوقف انتهاك حقوق الأطفال، المحامية ناهد سيف الدين ذهبت لضرورة تبني قضايا الأطفال وإثارة الرأي العام حول اقحامهم في الحرب، وأصدرت الخارجية السويسرية عددًا من التقارير بشأن استخدام الأطفال في الحرب، مؤكدين أن قضية الأطفال المجندين تظل خطيرة، رغم الجهود المبذولة من قبل المجموعة الدولية على مدى السنوات القليلة الماضية من أجل العثور على حلول.
وتظل قضية تجنيد الأطفال من القضايا المصيرية التي رمت بظلالها على واقع المجتمع السوداني جراء هذه الحرب، فمن ينقذ هؤلاء الأطفال من محرقة الحرب الطاحنة التي قضت على الأخضر واليابس.