* ارتبطت (السخرية) في السودان بالحكمة ، فقد تواترت عن الشيخ (فرح ود تكتوك) بصلاحه وحكمته ووقاره ومسيده حكاياته وطرائفه (الساخرة) والتى مازال الناس يتناقلونها في احاديثهم وتمثلهم وتجاربهم الحياتية ، رغم أن الشيخ فرح ود تكتوك ولد وعاش في القرن السابع عشر في (المملكة الزرقاء)، وقد اشتهر بالفراسة والأقوال الخالدة وسداد الرأي مع السخرية (الحميدة) التى جعلت لأقواله وحكمه ذلك الأثر الكبير في النفوس حتى وقتنا هذا.
* لو لم يكن الشيخ فرح ود تكتوك ساخراً بهذه الصورة الجميلة لما كان حاضراً بيننا بهذا التأثير.
* كذلك لا تخلو حياة شيوخ الصوفية من (السخرية) في سماحتهم، ولطفهم، وزهدهم، وبساطتهم التى تمنعهم من خدش أحد، لذا تجدهم لا يتجاوزون حدود الدين والأخلاق والأعراف فقد عرف عن الشيخ عبدالرحيم البرعي حلاوة اللسان، وبلاغة الطرف مع كل صلاحه الذي عُرِف به.
* وكان للسخرية ذلك الحضور الطاغي في الساحة السياسية – لعل أوضح ما يتميز به الدكتور حسن الترابي (سخريته) التى ارفقها بتعبيرات وجهه، وحركة يديه التى زادت من عمق رسالته.
* ولا يمكن تجاوز الإمام الصادق المهدي بسخريته التى كان يعمقها بالأدب الشعبي، والأقوال، والأمثال ذات الدلالات الشعبية العميقة ، والتى كان يختزل بها (حالة عامة) بتلخيصها في كلمة أو عبارة لتجوب عرض البلاد وطولها نقاشا وحوارا بين الناس.
* في عالم الصحافة نقف عند الوزير في فترة الديمقراطية الثالثة الراحل محمد توفيق والذي كان يكتب زاويته التى لم تكن تتعدى حدود الـ (50) كلمة تحت عنوان (جمرات) بسخرية حادة.
* كما عرف عن الشاعر ابومنة حامد سخريته التى تميز بها أبناء شرق السودان ، كذلك عُرِف في نفس المجال (ود الزومة) الذي جاء من شمال السودان بسرعة البداهة وقوة التشبيه.
* في السنوات الاخيرة أشتهر صحفيا الراحل زكريا حامد الذي كان يكتب (حاجة غريبة) بلغة ساخرة وقادرة أن تصل الجميع.
* السخرية الآن قد يكون اضر بها (شموليتها) بعد أن كانت احدى وسائل التعبير والمقاومة والنقد في حدود أهل الإختصاص والاحتراف ، عندما كانت المنابر محدودة والوسائل غير متاحة إلا لأهل التخصص.
* الآن (السخرية) أضحت (قطاع عام) يمارس التنافس فيه كل الناس عبر مواقع التواصل الإجتماعي، والتى قدمت أنواع مختلفة من السخرية وتداخلت ضروبها بين الكتابة والكاريكاتير والنكتة والدراما.
* هذه الوفرة جعلت صمود الكتابات الساخرة ضعيف ، وذلك بسبب سرعة العصر وتغير الاحداث وتبدلها.
* لكن مع هذه (الوفرة) التى اضعفت معايير السخرية وقللت من النواحي المهنية والفنية فيها ، إلّا أن وجود السخرية ظل كبيرا في حياة الناس ، ولها كذلك قدرة على التأثير، فهي الوسيلة الافضل للتغيير والإصلاح دون أن تترك اثرا جانبيا، أو تخلف مضاعفات سلبية.
* ربما نكون الآن نحن في (مرحلة انتقالية) بين المدرسة التقليدية، والمدرسة الحديثة بتكنولوجيتها وعلومها ، وعادة في المراحل الانتقالية يحدث مثل هذا الاختلاط الذي يجعل الاشياء تفقد ثباتها.
* العواطف نفسها تأثرت بهذه المرحلة الانتقالية – والعالم كله ينتقل إلى مرحلة جديدة، يتخلص فيها عن (جلده) القديم.
* السخرية بشكلها التقليدي لم تعرف المواكبة مع وسائل الاتصالات والإعلام الحديثة لهذا حدث لها شيء من (العزلة)، والسخرية أصلاً هي كائن (منعزل).
* الفضائيات، ومواقع التواصل الاجتماعي، اثرت بشكل كبير على (المسرح)، وعلى الصحافة (الورقية) وعلى كل الوسائل التى كانت تمثل (ملاعب) للسخرية.
* نحتاج لبعض الوقت – وربما نحتاج إلى جيل جديد يعرف أن يروض وسائل الاتصالات الحديثة لتكون في خدمة (السخرية) بشكل عملي ورسالي.
* ما يتناقل الآن من (السخرية) تشكل فيه (السطحية) القاسم المشترك الأعلى – وإذا فقدت السخرية (عمقها) فقدت (رسالتها) ، وقد حدث ذلك الاختلال للسخرية بسبب المرحلة الانتقالية التى أشرت لها سابقا.
* لم يعد للسخرية الآن (أدباً) كما كانت في الاصدارات العريقة في القاهرة وبيروت ودمشق.
* السخرية كانت مرتبطة بالأدب ، عرف في ذلك الجاحظ والشاعر ابن الرومي وحتى فلسفة ابو العلاء المعري يمكن نسبها الى السخرية (العميقة).
* وامتد تأثير السخرية على ادب عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم وطه حسين.
* اجزم أن (السخرية) قمة كل شيء – في الدراما اذا سألت عن النجم العربي الاول فهو (عادل امام) لأنه من عباقرة الساخرين في الدراما العربية ، وكذا الحال بالنسبة لنجم الدراما السورية (دريد لحام) وهو يصنف في درجة (سخرية) عادل امام. وفي الخليج تبقى الصدارة لعبد الحسين عبد الرضا، وناصر القصبي و حتى على مستوى التفاعل والتريندات سوف تجد الصدارة للسخرية متمثلة في صفحات عادل كرم في لبنان ومحمود الحمش في سوريا وسيم الحريصي في تونس على سبيل المثال لا الحصر.
* في السودان (السخرية) تحضر مع الناس في الشارع والطرقات رغم حرارة الشمس ، وما يعرف عن جمود السودانيين وقد فرضت عليهم (جديتهم) تلك ألا يقبلون (السخرية) إلّا اذا كانت جادة وملتزمة ومراعية للأعراف والأدب.
* السودانيون لا يحتفون بالمواقع والأمكنة ومجالس الانس إلّا اذا حفلت بالسخرية ، يمارسون ذلك حتى في (دار الرياضة ) أم درمان ذاك الإستاد الكروي العتيق الذي جعلوا فيه (مسطبة) كاملة أو (مدرج) شعبي مسرحاً للسخرية والساخرين ، يوازيه مسطبة (المجانين) في إستاد كرة القدم بمدينة بورتسودان.
* نعم أنهم يمارسون (السخرية) حتى في ألعابهم الرياضية الشيقة.
* السخرية عندنا شيء من الإصلاح – ننشد رسالتها في الالتزام والادب ، فقد تصلح السخرية ما افسد الدهر إن عجز (العطار) عن ذلك.
* ما نختم به هو – أن حديثنا عن (السخرية) هنا ينصب في معانيها السامية بعيدا عن النواهي الدينية والقانونية والعنصرية.
* سخرية من (الفعل) إن كان فيه (خللاً) وليس من (الفاعل).